رجب من القلعة إلى مجلس الحكم، فوضعت بخزانة في المدرسة العادليّة. وكانت أكثر من ستّين مجلّدا وأربع عشرة ربطة كراريس. فنظر القضاة والفقهاء فيها، وتفرّقت في أيديهم. وكان سبب هذا أنّه وجد له جواب عمّا ردّه عليه القاضي المالكيّ بديار مصر، وهو زين الدين ابن مخلوف، فأعلم السلطان بذلك فشاور القضاة فأشاروا بهذا.
[[وفاته مسجونا بالقلعة]]
ولم يزل بالقلعة حتّى مات يوم الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
فحضر جمع كبير إلى القلعة، وأذن لبعضهم في الدخول. وغسّل وصلّى عليه بالقلعة. ثم حمل على أصابع الرجال، وأتوا بنعشه من القلعة إلى الجامع الأمويّ. وحالما أذّن لصلاة الظهر، صلّى الإمام الشافعيّ من غير أن ينتظر صلاة المشهد على العادة. ثمّ صلّى عليه، وتوجّهوا به إلى مقابر الصوفيّة. فما وصلوا به إليها [٩٩ ب] حتّى أذّن للعصر. وأراد جماعة أن يخرجوا من باب الفرج أو باب النصر فلم يقدروا من شدّة الزحام وحمل على الأيدي والرءوس والأصابع. وكان الناس يلقون عمائمهم على النعش ويجرّونها إليهم طلبا للتبرّك بذلك. وحزر من صلّى عليه من الرجال فكانوا ستّين ألفا، وخمسة آلاف امرأة. وقيل أكثر من ذلك. وكان في عنقه خيط عمل بالزئبق لأجل القمل وطرده، فاشتري بجملة مال.
[مصنّفاته]:
وكتب بخطّه من التصانيف، والتعاليق المفيدة، والفتاوى المشبعة، في الأصول، والفروع، والحديث، وردّ البدع بالكتاب والسنّة، شيئا كثيرا يبلغ عدّة أحمال. فممّا كمل منها:
- كتاب الصارم المسلول على منتقص الرسول.
- وكتاب تبطيل التحليل.
- وكتاب اقتضاء السّراط المستقيم.
- وكتاب [في الردّ على] تأسيس التقديس [للرازي] في عدّة مجلّدات.
- وكتاب الردّ على طوائف الشيعة، أربع مجلّدات، وكتاب دفع الملام عن الأئمة الأعلام، وكتاب السياسة الشرعيّة، وكتاب التصوّف، وكتاب مناسك الحجّ، وكتاب الكلم الطيّب.
ومسائل كثيرة جدّا يقوم منها عدّات (١) كثيرة من المجلّدات.
وأكثر مصنّفاته مسوّدات لم تبيّض، وأكثر ما يوجد منها الآن بأيدي الناس قليل من كثير. فإنّه أحرق منها شيء كثير، ولا قوّة إلّا بالله.
ومع ذلك قال القاضي الذهبيّ: ولعلّ تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كرّاس وأكثر- وفسّر كتاب الله تعالى مدّة سنين من صدره أيّام الجمع.
[[ثناء العلماء عليه]]
ولمّا ولي مشيخة دار الحديث بعد والده، وهو شابّ، وحضره الأعيان وأثنوا عليه وعلى فضائله وعلومه قال الشيخ إبراهيم الرقّيّ: الشيخ تقيّ الدين يؤخذ عنه ويقلّد في العلوم. فإن طال عمره ملأ الأرض علما وهو على الحقّ. ولا بدّ أن يعاديه الناس فإنّه وارث علم النبوّة- وقال كمال الدين ابن الزملكانيّ: لقد أعطي ابن تيميّة اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين. وقد ألان الله له العلوم كما ألان لداود الحديد! - ثمّ كتب على بعض تصانيفه هذه الأبيات من نظمه [الكامل]:
ماذا يقول الواصفون له ... وصفاته جلّت عن الحصر
(١) عدّات: جمع عدّة، أي مجموعة.