الناس للاستسقاء إلى المصلّى. فلمّا ارتفع النهار جاء غبار وريح وظلمة، حتّى لا يستطيع أن يرى أحد أحدا من شدّة الغبار، ونحن مع الأستاذ أبي القاسم. فقال لنا: جئنا بأبدان مظلمة، وقلوب غافلة، ودعاء بلسان مثل الريح، فنحن نكيل ريحا فيكال علينا ريح.
فلمّا كان الغد خرج. وكان فقيرا ليس وراءه دنيا، ولكن له جاه عند الناس. فدخل على أبناء الدنيا، وأخذ منهم شيئا، وأمر بشراء بقرة وكثير من لحم الغنم والأرز وآلات الحلوى، وأمر مناديا في البلد: ألا من كانت له حاجة في الخبز واللحم والحلواء، فليحضر عند المصلّى! .
وأمر بالمراجل حتى حملت إلى المصلّى. فلمّا كان الغد خرجنا معه وأمر بطبخ المرقة والأرز والحلواء، وجاء بخبز كثير. وجاء الفقراء من الرجال والنساء، والصبيان، وأكلوا وحملوا إلى وقت العصر. فلمّا صلّينا العصر إذا في القبلة قطعة سحاب فقال لنا: شمّروا حتى نرجع!
فجاء الحمّالون فأخذوا الآلات فرجعوا ورجع أصحابه معهم. وبقي هو وأنا معه، وهو صائم وأنا أيضا لأجل موافقته. فرجعنا فلمّا بلغنا محلّة جوري كان قريبا من صلاة المغرب، فمطرنا مطرا لا نستطيع معه المضيّ بحال. فطلبنا مسجدا فدخلنا وجاء المطر كأفواه القرب، والمسجد يكف بالمطر، وفي جداره محراب. فدخل الأستاذ المحراب وصلّينا، وأنا في زاوية المسجد. وقال:
لعلّك جائع؟ تريد أن أطلب من الأبواب كسرة حتى تأكل؟
فقلت: معاذ الله! أنا ساكن.
فقال: [إنّ] غدا للناظرين قريب!
وكان يترنّم مع نفر [الكامل]:
خرجوا ليستسقوا فقلت لهم: قفوا ... دمعي ينوب لكم عن الأنواء
قالوا: صدقت! ففي دموعك مقنع ... لو لم تكن ممزوجة بدماء!
وقلت في نفسي: ليتك لم تخرج للاستسقاء حتى لا أبتلى بما ابتليت به من الجوع والظمإ والبرد! - ونمت في ناحية المسجد. فلمّا كان الصبح قاللي: قم يا أبا عبد الرحمن واطلب الماء، وتطهّر حتّى تصلّي.
فقمت. وتوهّمت أنّه قد تطهّر، فقلت: أين تطهّر الأستاذ؟
قال: ما تطهّرت.
فخرجت وتطهّرت، وصلّينا وخرجنا. ونام ليلته وصلّى على طهارة الأمس.
(قال) ولمّا دخلنا مكّة نظر إلى تلك القبور وقال: يا أبا عبد الرحمن، طوبى لمن كان قبره في هذه المقبرة! وليت قبري كان هنا!
ثمّ إنّه أقام بها مجاورا وقال لي: عليك بالانصراف، فقد حججت حجّة الإسلام فاشكر الله على ذلك وارجع إلى والدتك، فإنّي قد قبلتك منها، فيجب أن أردّك عليها.
وكنت نويت أن أجاور معه ولكنّه لم يرض لي لغرض الرجوع إلى الوالدة. فقال: ترجع وتعود سريعا إن شاء الله.
فمرض هناك مدّة يسيرة. فقال لي بعض أصحابنا:
دخلت عليه في مرضه، فقلت: ما تشتهي؟
[[حنينه إلى بلاده]]
فقال: كوز من ماء الجمد (١) كما يكون بخراسان.
(١) أي الماء الذي برد حتى صار كالثلج.