للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[تلطّفه في صرف خطر السلاجقة عن الشام ومصر]

واتّفق وصول طغرلبك السلجوقي من خراسان بالغزّ إلى بغداد في هذه السنة، وللوزير بها أعين. فكتبوا إليه بوصوله وأنّه مزمع على المسير من بغداد إلى بلاد الشام ليملكه كما ملك بغداد. فقلق من ذلك لعظم أمر طغرلبك، وأنّه دوّخ الممالك وقتل الملوك واحتوى عليها وانتشر صيته وكبر في نفوس الملوك شأنه ولم يبق له معاند يخافه. فرأى أنّ الحيلة أبلغ من الاستعداد له في دفعه عن البلاد، لكثرة ما معه من العساكر، وكتب إليه يهنّئه بقدومه إلى العراق ويبذل له من الخدمة ما يوفي على أمله، وأنّ أرض مصر كلّها بحكمه (١)، وأنّه وإن كان مستخدما لدولة ويدعو إليها، فإنّه يعلم كثرة الاختلاف ممّن يجاورها في نسبها واتّفاق الكلمة ووقوع الإجماع على الرضى بالخليفة الصحيح النسب الصريح الحسب الهاشميّ العبّاسيّ، وأنّه لا يمتنع من الإقرار له بذلك- وأعطاه صفقة يده على مبايعته وتسليم الدولة إليه، وأنّه قد اتّصل به إزماع حضرته على التوجّه إلى الشام، وأنّه أشفق من تسليمها إليه أن تطأها عساكره مع كثرتها وتجمّعها فتخربها وتعفي آثارها. [فإن رأى إعفاءها] من وطء العساكر لها ووصول ركابها إليها على وجه الفرجة والنظر إلى دمشق وحسنها، فلها عالي رأيها.

فلمّا وقف طغرلبك على كتاب اليازوريّ قال:

هذا كتاب رجل عاقل (٢)، يجب أن يعتمد ما أشار به- وأذن للعساكر في العود إلى بلادها. فمضى كلّ عسكر إلى وطنه، وقوّض خيامه وضربها على

الجانب الغربيّ يريد الشام. فكتب عيون الوزير إليه بذلك، فقلق شديدا وكتب إلى طغرلبك: لا تغرّنّك الأماني والخدع بأن أسلّم إليك أعمال الدولة وأخون أمانتي لمن غذّاني فضله وغمرني إحسانه وتتعيّن عليّ طاعته وموالاته. فإن كنت تسلّم إليّ ما في يدك لصاحبك من بلاد العراق وأعمالها، سلّمت إليك ما في يدي لصاحبي.

[و] الواجب أن تكون كلمة الإسلام مجموعة لابن بنت النبيّ، الذي هو أولى بمكانه من غيره. وإن رغبت إلى ما في الموادعة والمهادنة انتظمت الحال بين الدولتين وأمن الناس بينهما. فإن أبيت إلّا الخلاف ونزع بك الهوى إلى الظنون الفاسدة والأطماع الكاذبة، فليس لك عندي إلّا السيف، فإن شئت فأقم، وإن شئت فسر!

فغاظ ذلك طغرلبك وقال: خدعني هذا الفلّاح وسخر منّي- وكتب إلى إبراهيم ينال أخيه: ردّ إليّ العسكر مسرعا! - فأنفذ إبراهيم ليردّهم فلم يرجع أحد منهم وقالوا: فينا من بينه وبين وطنه شهران وثلاثة وخمسة، وقد سرنا معه حتّى وطئ الأعمال وملك البلاد وفتح المدن واحتوى عليها وفاز [٣٦٤ ب] بما فيها، ولم نحصل منه إلّا على التعب والنصب والخيبة. وإذا كنّا لم نصب في طول سفرنا خيرا فما عسى أن نؤمّله إذا عدنا؟

- ومضوا. هذا وقد بثّ اليازوريّ عيونه وجواسيسه في عسكر طغرلبك واستفسد أعيانهم وألطفهم وأكثر أمانيهم ومواعيدهم، وتوصّل إلى زوجة طغرلبك، وإلى أبي نصر منصور الكندي وزيره، وإلى إبراهيم ينال أخيه وصاحب جيشه، فمالوا إليه وتقاعسوا عن طغرلبك. وما كفاه ذلك حتّى حمل الخاتون زوج طغرلبك على قتله، فقالت:

أمّا بيدي فلا، ولكنّي أتحيّز عنه بغلماني، وهم حميّة عسكره- وكانت عدّتهم نحو اثني عشر ألفا-


(١) انظر هذه المراسلة في الفخري ٢٩٢.
(٢) الرواية متشابهة في المخطوط وفي الاتّعاظ ٢/ ٢٣٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>