للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

استشعرت من نفسك عمّا يذلّلها نفورا، فاجأر (١) إليه وقف ببابه واطلب منه، فإنّه لا يعرض عمّن صدق، ولا يعزب عن علمه خفايا الضمائر، ألا يعلم من خلق؟ هذه نصيحتي إليك، وحجّتي بين يدي الله إن فرّطت عليك. أسأل الله لي ولك قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، ونفسا مطمئنّة، بمنّه وكرمه.

[تداينه بسبب محبّته للكتب]

وقال الأدفويّ: لكنّه كان غالبا في فاقة تلزمه الإضافة فيحتاج إلى الاستدانة، وقد تفضي به إلى بذل الوجه المعروف بالصيانة. ادّعى عليه أمينالحكم بالقاهرة عند قاضي القضاة بدر الدين محمد ابن جماعة بدين عليه لأيتام. فتوسّط ابن جماعة بينهما، وقرّر معه أن تكون جامكيّة الكامليّة للدّين، والمدرسة الفاضليّة لكلفه. ثمّ قال لابن دقيق العيد: أنا أشحّ عليك بسبب الاستدانة.

فقال: ما يوقعني في ذلك إلّا محبّة الكتب.

وطلب مرّة، وهو متولّي الحكم، درهما من أولاده ليشتري به شمعة، فلم يجدوه. وكتب إلى صاحب اليمن يستجديه [الطويل]:

تخاذل أرباب الفضائل إذ رأوا ... بضاعتهم منكوسة الحظّ في الثمن

وقالوا: عرضناها فلم نلف طالبا ... ولا من له في مثلها نظر حسن

ولم يبق إلّا رفضها واطّراحها ... فقلت لهم لا تعجلوا: السوق باليمن

فأرسل إليه مائتي دينار. واستمرّ يرسلها إلى أن مات.

(قال): وكان يحاسب نفسه على الكلام، لكنّه تولّى القضاء في آخر عمره وذاق من حلوه ومرّه،

وحطّ ذلك عند أهل المعارف من علوّ قدره، وحسن الظنّ ببعض الناس، فدخل عليه اليأس، وحصل له من الكلام نصيب، والمجتهد يخطئ ويصيب. ولو حيل بينه وبين القضاء، لكان عند الله أحمد عصره، ومالك دهره، وثوريّ زمانه، والمتقدّم على كثير ممّن تقدّمه، فكيف بأقرانه؟

على أنّه عزل نفسه مرّة ومرّة، وتنصّل منه كرّة بعد كرّة، والمرء لا ينفعه الحذر، والإنسان نخب (٢) القضاء والقدر.

وكان يدرّس بالمدرسة الفاضليّة، والشافعيّ، والكامليّة، والصالحيّة.

[١٦٩ أ] وله في القضاء آثار حسنة، منها: انتزاع أوقاف كانت أخذت وأقطعت لمقطعين. ومنها أنّ القضاة كان يخلع عليهم الحرير، فخلع عليه صوف، واستمرّ.

[[ ... وللجواري]]

وقال الشهاب ابن فضل الله في حقّه: صاحب التصانيف، آخر المجتهدين، وفاخر درر المقلّدين، حجّة العلماء الأعلام، ومحجّة القصد والسلام، رافع منار الشرع المطهّر، ومعلّي قدر فرقده، ومعلن اسم سؤدده، ومعلم البروق اللامعة، بأنّها لا طاقة لها بتوقّده، ومعلّق طيبه بمفرق الدهر مسك ليله وكافور غده، قام بالحقّ وكلّ قاعد، وهبّ، وكلّ على جفنه النوم عاقد، وتخلّق بخلائق السلف، عليه مضوا وبه جاءوا، وعليه قضوا، من علم تلافى الفساد، وأوفى بقدر السلف وزاد، وورع ما دنّس ثوبه، ولا كدّر صوبه. إلّا أنّه كان مغرّى بالنكاح، مغرما منه بالمباح، يغالي في شراء الجواري واستسراء قيم السراريّ. ولم يكن له جدة للإنفاق، وكان


(١) جأر إلى الله: رفع صوته إليه بالدعاء.
(٢) قراءة ظنّيّة، ومخطوط المسالك ليس بأوضح.

<<  <  ج: ص:  >  >>