للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

عظيم، ثمّ انصرف إلى معسكره.

وصابحهم يوم الجمعة فكان القتال أشدّ من اليوم الذي قبله. وأصعد المنصور ثلاثمائة عبد إلى القلعة فألقوا بها النار فاحترق كثير ممّا فيها وعادوا، فأنعم على كلّ عبد بمائة درهم وخلعة.

[[الوقعة الحاسمة وأسر أبي يزيد]]

ثمّ صبحهم يوم السبت [١٩٤ أ] ولبس ثوبا أخضر موشّحا بذهب وعمامة حمراء معلمة (١)، فقويت نفوس الناس وأيقنوا بالفتح لأنّه لم يلبس هذا اللباس في جميع حروبه. وقامت الحرب على ساق، فكان يوما لم يشهد قطّ مثله، وعلا البربر على تلك القلاع والأوعار وألقوا الصخور العظيمة فطحنت من الرجال والدوابّ ما شاء الله. فلمّا كان نصف النهار كلّ جميع الناس وملّوا وعطشوا من شدّة الحرب والحرّ وأثخنوا بالحجارة والجراح، فغضب المنصور وتقدّم بنفسه في ثلاثة آلاف فارس وعشرة آلاف راجل فتوغّل وعرا شديدا لا مسلك فيه للفارس ولا للراجل. فظنّ النكّار أنّهم قد ظفروا به فحمل جميعهم عليه حملة منكرة منحدرين كالسيل في الليل، فتفرّق عنه أصحابه وأسلموه حتّى بقي وحده، فقصدوه وتعاورته السيوف والرماح والحجارة، وثار عجاج مظلم طبّق الأرض، فرماه في تلك الحالة أحدهم برمح فاتّقاه بالدرقة فأنفذها إلى صدره، وكانت الحجارة تمرّ على فرسه يمينا وشمالا حتّى كاد يسقط، ثمّ تجلّى الغبار، وقد ظنّ النكّار أنهم أتوا عليه، فرأوه قائما فانهزموا بين يديه، واتّبعهم وحده في وعر لا مسلك فيه، فرآه أصحابه سالما وقد كانوا يئسوا منه فعطفوا من كلّ ناحية إليه وقتلوا البربر قتلا ذريعا. ولجأ أبو يزيد وأصحابه إلى قصر في ذروة القلعة وقاتلوا من أعلاه، فضربت فازة صغيرة

بالقرب من القصر وجلس المنصور فيها، والجيوش محيطة بالقصر من كلّ ناحية، ثمّ ألقوا النار في أبوابه. وكتب المنصور كتابا بأمان من في القصر إن هم خرجوا وأسلموا أبا يزيد، ورفعه على قناة إليهم، فمزّقوه ورموا به وقاتلوا قتال أهل البصائر (٢) حتّى هجم الظلام وقد ملّ الفريقان وأعيوا. فأمر المنصور بإيقاد المشاعل حول القصر، ودارت الجيوش عليه، وخرج من الفازة إلى بساط جلس عليه قريبا من القصر، وأطلق النار في الشعاري فصار الليل كالنهار المشرق، وهو جالس، والطبول تضرب بين يديه والأعلام منشورة. فلمّا كان في آخر الليل فتحوا باب القصر وخرجوا وهم يحملون أبا يزيد وأبا عمّار على أيديهم، فحملوا على من يليهم حملة شديدة حتّى اختلط الناس، وقتل من النكّار من قتل ونجا من نجا. وكان فيمن قتل أبو عمّار (٣) وجماعة. وأسر منهم رجل فأخبر المنصور عن أبي يزيد أنّه خرج محمولا على أيدي ثقاته، فأمر بطلبه فلم يوجد.

فشقّ ذلك عليه وغمّه ووقعت فترة في العسكر (٤).

وجاء المؤذّنون فأذّنوا بصلاة الصبح فقام وصلّى على وضوءه بالأمس. فلمّا سلّم من صلاته قال: «لو علم الفاسق أنّ في الأرض أحصن من هذه القلعة لصار إليها، وما أحسبه زال عن هذا المكان، ولو كان في السماء لسقط في يدي». فهو في الكلام حتّى أتوه به أسيرا، فحمد الله وأثنى عليه وشكره وسجد شكرا لله، وأمر للّذي بشّر به بألف دينار. وأمر بأبي يزيد فحمل إلى المضرب وهو لما به (٥) من الضعف والجراح، والناس


(١) أي لها علامة خاصة من طراز ونحوه.
(٢) البصيرة: عقيدة القلب.
(٣) في المخطوط: أبو عامر.
(٤) الفترة هنا: الخيبة والانكسار.
(٥) لما به: تعبير جاهز نادر الاستعمال عسير التأويل، ومعناه-

<<  <  ج: ص:  >  >>