للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وفيها ما هو حيدة (١) عن القول بأنّه مخلوق. فكتب مقالتهم وبعث بها إلى المأمون، فأجاب بذمّهم والوقيعة فيهم، وأن يحضرهم: فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن، وإلّا حمله في الحديد إليه مع نفر يحفظونه. فأحضرهم إسحاق وأعلمهم بما أمر بهم فشدّوا في الحديد. فلمّا كان الغد، دعاهم في الحديد وأعاد عليهم المحنة، فأجاب اثنان فأطلقهما، وأصرّ أحمد بن حنبل ومحمّد بن نوح على قولهما.

فشدّا في الحديد، ووجّه بهما إلى طرسوس، وكتب إلى المأمون بما أجاب القوم به. فلمّا صارا إلى الرقّة بلغهم موت المأمون فعادا إلى بغداد.

[[موت المأمون]]

وكان من خبر موت المأمون أنّه لمّا خرج يريد الغزو أتاه رسول ملك الروم فقال: إنّ الملك يخيّرك بين أن يردّ عليك نفقتك التي أنفقتها من بلدك إلى هذا الموضع، وبين أن يخرج كلّ أسير من المسلمين في بلد الروم بغير فداء [١٢٤ ب] ولا درهم ولا دينار، وبين أن يعمر كلّ بلد للمسلمين قد أخربته النصرانيّة ويردّه كما كان، وترجع عن غزاتك هذه.

فقام المأمون ودخل خيمته وصلّى ركعتي الاستخارة، وخرج فقال للرسول: قل له: أمّا قولك: تردّ عليّ نفقتي، فإنّي سمعت الله عزّ وجلّ يقول في كتابه العزيز: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ* فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ* ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ [النمل: ٣٥ - ٣٧].

وأمّا قولك: إنّه يخرج كلّ أسير من المسلمين في بلد الروم، فما في يدك إلّا أحد رجلين: إمّا

رجل طلب الله عزّ وجلّ والدار الآخرة، فقد صار إلى ما أراد، وإمّا رجل طلب الدنيا، فلا فكّ الله أسره!

وأمّا قولك: إنّك تعمر كلّ بلد للمسلمين قد خربه الروم، فلو أنّي قلعت أقصى حجر في بلاد الروم، ما اعتضت بامرأة عثرت في حال أسرها فقالت: وا محمّداه!

عد إلى صاحبك فليس بيني وبينه إلا السيف! .

وضرب الطبل فرحل، وكان من فتحه ما تقدّم.

وانصرف من غزاته فنزل عين البذندون على طريق طرسوس، وهي عين ماء، وتعرف أيضا ب «القشيرة». وأقام هناك حتّى ترجع رسله منالحصون.

فوقف على العين ومنبع الماء فأعجبه برد مائها وصفاؤه وحسن بياضه وطيب الموضع وكثرة الخضرة. فأمر بقطع خشب طوال فبسطت على العين كالجسر، وجلس عليه والماء تحته. وطرح في الماء درهما فقرأ كتابته، وهو في قرار الماء، لصفائه. ولم يقدر أحد يدخل الماء من شدّة برده.

فبينا هو كذلك إذ لاحت له سمكة نحو الذراع كأنّها سبيكة فضّة فأمر بإخراجها. فلمّا صارت على حرف العين أو على الخشب اضطربت وانماست من يد الفرّاش، فوقعت في الماء كالحجر فنضحت الماء على صدر المأمون ونحره وترقوته، فبلّت ثوبه. فأخذها الفرّاش فوضعها بين يدي المأمون في منديل وهي تضطرب، فقال: تقلى الساعة!

ثم أخذته رعدة من ساعته فلم يقدر يتحرّك من مكانه، فغطّي باللحف والدواويج (١*)، وهو يرتعد كالسعفة ويصيح: «البرد! البرد! » ثمّ حوّل إلى المضرب ودثّر وأوقدت النيران حوله، وهو يصيح: «البرد! » فأتي [١٢٥ أ] بالسمكة وقد فرغ


(١) الحيدة: الميل عن الطريق.
(١*) الدواج: المعطف الواسع.

<<  <  ج: ص:  >  >>