للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

[[حسن احتمائه في المأكل والمشرب]]

وحدّثت بعض من كان [ت] تقوم بخدمته من النساء، قالت: كنت أتولّى صلاح ما يشربه من الدواء في كلّ يوم، وكان لا يعطّل شربه يوما واحدا. وذلك أنّه كان يشرب السكنجبين والورد أسبوعا، ثمّ يريح نفسه ثلاثة أيّام، ثمّ يشرب النّقوع المغلّى في الشتاء، والمنجّم في الصيف، أسبوعا لكل منهما. ويشرب ماء البزور أسبوعا، ويشرب ماء الجبن ثلاثة أيّام، ويشرب ماء البقل أسبوعا، ثمّ يشرب الراوند (١) المنقوع كذلك، ويريح نفسه بين كلّ دواءين ثلاثة أيّام، ولا يخلّ بذلك في صيف ولا شتاء.

وكان نديّ الوجه كثير الحياء لا يكاد يرفع طرفه إلّا لضرورة. ولم يسمع منه قطّ في سؤال لفظة «لا» بل كان إذا سئل فيما يرى إجابة سؤاله إليه يقول «نعم» بإخفاض من طرفه وخفوت من صوته. فإذا سئل فيما لا يرى الإجابة إليه يطرق ولا يرفع بصره. وعرف هذا منه، وكان لا يراجع فيه إلّا بعد مدّة.

وكان كلّ من يحضر مائدته يستدعي منه الحضور بين يديه ليلا ليسمروا عنده. وكان فيهم من يشرب المسكر، فإذا حضروا عرف [٣٦٥ ب] كلّ منهم مجلسه الذي تقرّر له. وكان كلّ من لا يشرب النبيذ يجلس عن يمينه، ومن يستعمله يجلس عن يساره، وتوضع بين يدي كلّ منهم

الفواكه الرطبة واليابسة، ويتفرّد من لا يشرب بحلاوة توضع بين يديه، ومن يشرب يعمل بين يديه ما يستعمله، وستارة الغناء مضروبة.

فيجلسون بين يديه، وهو مشغول يوقّع، وهم يتحدّثون همسا وإشارة، إلى أن ينقضي أربه من التواقيع، فيسند ظهره وينشّطهم للحديث فيتحدّثون. ويقول لمن عن يمينه: قد تجدّد اليوم كذا وكذا، فما عندكم فيه؟ فيقولون: سعادة حضرة سيّدنا تمهّد له صواب الآراء، وقد خصّها الله تعالى من ذلك بما لا تهتدي عبيدها إليه.

[[لجوءه الدائم إلى المشورة]]

فيقول: بل يقول كلّ منكم ما عنده في ذلك، ولا يقوم في نفس واحد منكم أنّ ما رآه خطأ فيمسك عن ذكره، فربّما كان الصواب مقرونا بذلك الرأي وهو ضالّة (٢) من لم تجر عادته بإنعام الفكرة فيه.

فيصقع (٣) أحدهم ويقول: الذي يراه العبد على وجه الخدمة كذا وكذا.

فلا يزال يسمع من واحد واحد حتى يستكمل الجماعة، ثمّ يعطف على شماله فيقول: قولوا! فيفعلون كفعل الأوّلين، وهو يسمع ولا يردّ على أحد شيئا، فلا يصوّب المصيب ولا يخطّئ المخطئ، ويبيت يضرب الآراء بعضها ببعض حتى يتمحّض له الصواب، ويصبح يرمي فلا يخطئ. وهكذا كانت أفعاله طول مدّته، لم يستبدّ قطّ برأيه ولا أنف من المشورة، بل يقول: المستبدّ برأيه واقف على مداحض الزلل، وفي الاستشارة حلّ عقول الرجال.

وبهذا العقل تمّ له ما كان يدبّره حتى أثّر في


(١) السكنجبين: شراب مركّب من خلّ وعسل، والروند والراوند هو الريباس أو الرمّان الهنديّ (أدّي شير: معجم الألفاظ الفارسيّة المعرّبة). والنّقوع شراب من زبيب مصبّر (منقوع) في الماء، والمنجّم منه المطروح ليلا تحت السماء لتبريده (اللسان ودوزي). والورد هنا لعلّه ورد النيل أي باقلّاء القبطي الذي يؤكل (معجم خيّاط وحديقة الأزهار للوزير الغسّاني).
(٢) في المخطوط: ضالّة تصيبه من لم ...
(٣) صقع بصوته: رفعه.

<<  <  ج: ص:  >  >>