للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الملوك وأقلّهم عقلا وأسخفهم رأيا من رضي بقولهم: صدق الأمير.

*** وقيل للمأمون: لو نصبت للناس رجلا وأقمته لحوائجهم فتشاغل بهم، واقتصرت عليه بينك وبين الرعيّة، ولم تشغل نفسك بالاستماع إلى كلّ داخل؟

فقال: إنّي بسطت للناس في الكلام وأذنت لهم في الدخول عليّ، وجعلت حوائجهم بيني وبينهم، لتصل إليّ أخبارهم، وأعرف مبلغ عقولهم، وأعطي كلّ امرئ منهم على قدره، فيكون كلّ إنسان حميل حاجته ولسان طلبته، خارجا عن يدي شكله، والطلب إليّ مبلّغ. ولو جعلت ذلك إلى أحد، لضاق على الرعيّة المذهب، وخفيت عليّ أمورهم، وحبست عنّي أخبارهم، وموطلوا بحوائجهم، وتأمّر عليهم غيري، وكان الحمد والمنّ لواحد في زمانهم دوني ودون أوليائي. وخفت مع هذا أن لو نصبت لهم رجلا لا أشكر على صنيعه، فينسون نعمتي أوليائي (١) ويستعبدهم غيري، فأكون قد صيّرت أحرارا أرقّاء.

[[عدل المأمون]]

وجلس يوما للمظالم فأطال الجلوس حتى زالت الشمس، فإذا امرأة أقبلت تعثر في ذيلها حتى وقفت على طرف البساط فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.

فنظر إلى يحيى بن أكثم. فأقبل يحيى عليها فقال: تكلّمي!

فقالت: يا أمير المؤمنين، قد حيل بيني وبين ضيعتي، وليس لي ناصر إلّا الله تبارك وتعالى.

فقال لها يحيى: إنّ الوقت قد فات. ولكن عودي يوم المجلس.

فرجعت. فلمّا كان يوم المجلس قال المأمون:

أوّل من يدعى المرأة المظلومة.

فدعي بها. فقال لها: أين خصمك؟

قالت: واقف على رأسك يا أمير المؤمنين، قد حيل بيني وبينه- وأومأت إلى العبّاس ابنه.

فقال لأحمد بن أبي خالد: خذ بيده وأقعده معها!

ففعل. فتناظرا ساعة حتى علا صوتها عليه.

فقال لها أحمد بن أبي خالد: أيّتها المرأة، إنّك تناظرين الأمير أعزّه الله بحضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه. فاخفضي عليك! [١٣٣ أ].

فقال المأمون: دعها يا أحمد، فإنّ الحقّ أنطقها والباطل أخرسه.

فلم تزل تناظره حتّى حكم لها المأمون عليه وأمره بردّ ضيعتها. وأمر ابن أبي خالد أن يوقّع لها بعشرة آلاف درهم.

*** ودخلت عليه امرأة في أخريات الناس في أطمار بالية، وقد أذّن المؤذّن فقالت [البسيط]:

يا خير منتصف يهدى له الرشد ... ويا إماما به قد أشرق البلد

تشكو إليك عقيد الملك أرملة ... عدا عليها، فما تقوى به، أسد

فابتزّ منّي ضياعي بعد منعتها ... وقد تفرّق عنّي الأهل والولد (١*)

فأجابها المأمون:

في دون ما قلت عيل الصبر والجلد ... منّي ودام به من قلبي الكمد


(١) هكذا في المخطوط ولعلها لغة أكلوني البراغيث.
(١*) الأبيات في العقد ١/ ٢٨ ونهاية الأدب ٦/ ٢٧٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>