للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

المحتسب وأنكر عليه، فقال: العادة جارية باستخدام عرفاء في الأسواق على أرباب الصنائع، وتقبّل قولهم فيما يذكرونه، وقد حضر عريف الخبّازين بالسوق الفلانيّ واستدعى عونين من الحسبة، فوقع الظنّ أنّه أنكر شيئا يوجب فعل ذلك، فاستدعى القاضي الخبّاز وأمره، فقصّ على المحتسب خبره، فقال القاضي للمحتسب: رجل يرخص على الناس أقواتهم فيجازى على ذلك بما يؤذيه- ثمّ سأل الخبّاز كم أخذ منه، فقال: أخذ منّي العريف خمسة دراهم، وكلّ ما في يدي مائة درهم.

فقال: يصرف هذا العريف عاجلا، ويغرّم ما أخذه من هذا المسكين ويعاد إليه.

والتفت إلى صاحب دواته فقال له: انظر ما معك فادفعه إلى هذا الخبّاز.

[[حسن تدبيره في أزمة الغلاء]]

فناوله قرطاسا فيه ثلاثون رباعيّا، فكاد عقل الخبّاز يذهب من شدّة فرحه. وعاد إلى دكّانه فإذا عجنته الثانية قد خبزت فنادى عليها: خمسة أرطال بدرهم! - فمال الناس إليه واشتروا خبزه لرخصه.

فخاف من هناك من الخبّازين تلاف أخبازهم، فإنّها بردت، وباعوا مثل بيعه. فنادى: ستّة أرطال بدراهم! - فقادتهم الضرورة إلى بيع أخبازهم كذلك. وصار يريد مكايدة العريف بإرخاص السعر ويزيد رطلا رطلا، والخبّازون يتبعونه في بيعه خوفا على بوار أخبازهم، إلى أن بلغ النداء:

عشرة أرطال بدرهم، وانتشر ذلك في سائر البلد، وتسامع به الناس فتسارعوا إليه، حتّى إنّه لم يخرج قاضي القضاة من الجامع إلّا والخبز في جميع البلد عشرة أرطال بدرهم.

وكانت العادة أنّه يشتري للديوان السلطانيّ في كلّ سنة غلّة بمائة ألف دينار وتجعل متجرا، فلمّا عاد قاضي القضاة إلى القاهرة مثل بحضرة الخليفة المستنصر، وعرّفه ما منّ الله تعالى به في هذا اليوم من إرخاص السعر، وتوفّر الناس على الدعاء لأمير المؤمنين، وأنّ الله- جلّت قدرته- فعل ذلك، وحلّ إسعاد الناس، بحسن نيّة أمير المؤمنين في رعيّته بغير موجب ولا فاعل له، بل بلطف الله تعالى واتّفاق قريب يسير. وقصّ عليه الخبر ثمّ قال: يا أمير المؤمنين، إنّ المتجر الذي يقام بالغلّة في [هـ] أوفى مضرّة على المسلمين، وربّما انحطّ السعر عن مشتراها فلا يمكن بيعها، حتى تتغيّر في المخازن وتتلف. والمصلحة أن نقيم متجرا لا كلفة على الناس فيه ويفيد أضعاف فائدة الغلّة ولا يخشى عليه من تغيّر في المخازن ولا انحطاط [سعر]: وهو الخشب والصابون والحديد والرصاص والعسل وما أشبه ذلك.

فأمضى المستنصر له ما رآه، واستمرّ ذلك ودام الرخاء على الناس مدّة سنين.

ثمّ قصر النيل في سنة سبع وأربعين بعد خمس سنين من نظره في الوزارة، ولم يكن بمخازن السلطان من الغلّة إلّا ما ينصرف في جرايات من في القصور ومطبخ الخليفة وحواشيه لا غير. فورد على الوزير من ذلك ما شغل سرّه وكثر له فكره.

ونزع السعر إلى ثمانية دنانير التّليس (١) الدوّار، واشتدّ الأمر على الناس.

ففتح الله له من التدبير أن نظر في أمر النواحي، وكانت عادة التجّار أن يقرضوا المعاملين حين إسعارهم (٢) وضيق الحال عليهم في المقام للديوان بما يجب عليهم من الخراج، مالا يبتاعون به منهم غلّاتهم عند إدراكها ليصيبوا فيها ربحا.


(١) التّليس: كيل للقمح يساوي ١٥٠ رطلا أو ثماني ويبات، الإشارة ٤٣ هامش ٥، والاتّعاظ ٢/ ٧٤ هامش ٢.
(٢) أسعارهم قراءة تخمينيّة، ولعلّها إعسارهم أو: افتقارهم، والعبارة في الاتّعاظ ٢/ ٢١٦ ليست أكثر وضوحا.

<<  <  ج: ص:  >  >>