وطلع إلى الوزير وعرّفه الحال، فقال: ما أخّرنا ذلك عنهم إلّا لأنّ السنة كثيرة النفقات والطوارئ. ولكن هذه ألف دينار، فخذها وأنفقها فيهم إلى أن نحمل باقي مالهم مع مال العسكر.
فأخذ الألف وعاد إليهم وعرّفهم ما قال الوزير، فامتنعوا من أخذ الألف، وذكروا أنّهم قد تعبوا وكلّفوه المسير معهم ولا يرجعون إلّا بعد قبض الثلاثة آلاف. وألزموه بالعود. فعاد وعرّف الوزير ما كان منهم، فغضب وأمر لهم بألف أخرى، وقال: قد ذكرنا لك أنّا لم نؤخّر عنهم ذلك إلّا لضيق الحال وانتظار ما يصل من الرّيف، فنحمل إليهم باقي استحقاقهم. ولم يبق الآن إلّا ألف، ونحن نحمل إليهم ذلك بعد هذا.
[قهره لبني قرّة الثائرين وإجلاؤهم عن البحيرة]
فعاد إليهم ناصر الدولة، فأبوا إلّا أخذ الجميع، وأنّهم لا يبرحون من مكانهم إلّا بجميع ما يستحقّونه وجفوا في الخطاب، فعاد إلى الوزير وعرّفه ما كان منهم. فاشتدّ غضبه وقال: إجابتهم إلى ما التمسوه دفعة بعد أخرى طمّعهم. وو الله لا أطلقت لهم درهما واحدا! - واستعاد الألفي دينار من ناصر الدولة، وتقدّم بتجريد العسكر لهم، فتسرّع من خفّ مع يمن الدولة (١) كافور الشرابيّ وساروا إليهم، فإذا بهم متأهّبين للقائهم، فجرت بينهم نوبة قتل فيها اثنان من العسكر، وحال بينهما الليل. فلمّا بلغ ذلك الوزير عظم عليه إقدامهم على العسكر، سيّما بني قرّة، فإنّهم كانوا أشدّ حربا من الطلحيّين.
وكان بالقاهرة من مقدّم [ي] هم ثلاثة نفر، وهم ضيوف مكرمون، فأشير على الوزير بقبضهم ليكفّ عادية باقي بني قرّة. فاستدعى صاحب
الستر سيف الدولة مبشّر، ومتولّي الشرطة سنان الدولة ابن جابر، ومتولّي الصناعة عظيم الدولة عطاء، وأمرهم بأخذ الثلاثة ليلا وتسييرهم تحت الحفظ والحوطة إلى الجيزة والتحيّز بهم عن العسكر إلى حيث يأمنون على أنفسهم، وتخلية سبيلهم، ففعلوا ذلك. وأصبح الناس وقد علموا بمضيّهم. وكلّموا الوزير في ذلك فقال: قبح السمعة في القبض عليهم وهم في ضيافتنا منعني من ذلك. فهم في هذه الحال كالحرم، فلم أستجز فعل ذلك، بل أطلقتهم، وو الله لا أخذتهم إلّا من ظهور دوابّهم!
فقال شخص من الأكابر يعرف بعجلان بن مطر اللواتيّ: قد فعل هذا الوزير شيئا لم يسبقه إليه أحد، من إطلاق هؤلاء القوم، واستحيى فيهم بما فعله. وو الله ليظفرنّ بهم لأنّ هذا تقليد البغي، فإن كان فيهم بعد ذلك كائن فالدائرة عليهم.
فكأنّما نطق بالغيب: فإنّهم تشمّروا عند وصول الثلاثة إلى الحاجر ونزلوا به. وأخذ الوزير يجرّ العساكر لهم حتّى كمل له ما أراد، وسيّرها وقد تجمّعت حشود بني قرّة، فالتقوا بكوم شريك فكانت الدائرة عليهم، وقتل منهم خلق كثير وانهزموا. فتبعهم العسكر ظنّا أنّهم يعودون إلى اللقاء، فلم يثنهم شيء عن قصد برقة، وأسلموا أموالهم وكلّ ما في أيديهم للنهب، ففاز به العسكر وغنموه، وانقلعت شأفة بني قرّة والطلحيّين منالبجيرة، إلى اليوم، وبقوا مشرّدين مطردين يجاورون العربان على أقبح صورة أربعين سنة.
وقد كان الوزير لمّا أخرج العسكر لقتال بني قرّة، فنّد أهل الدولة رأيه، وحكموا أنّهم لا ينتقلون من البحيرة أبدا لقوّة بأسهم وشدّة شوكتهم ولائتلافهم بالطلحيّين. فأكذب جميل فعله ظنّهم.
ثمّ إنّه رأى في كون العساكر في أعمال البحيرة
(١) في الاتّعاظ ٢/ ٢١٩: ليث الدولة.