لطف الأخلاق وسعة الصدر وبشر المحيّا.
واجتمع فيه أربع خصال قلّما جمعها غيره:
جودة الحافظة، فقلّما طالع شيئا إلّا واستحضره أو أكثره، وحسن الذاكرة، فكان إذا أراد، تذكّر شيئا ولو قدم عهده كأنّما مرّ به أمس، والذكاء الذي تسلّط به على ما أراد [٨١ ب]، وحسن القريحة في النظم والنثر.
وأضاف الله له مع ذلك حسن الذوق. وكان إماما في الأدب عارفا بتراجم الناس، سيّما أهل عصره.
عارفا بخطوط الفضلاء وشيوخ الكتابة، قد جوّد فنّ الإنشاء حتى كان فيه آية. وجوّد النظم وبرع في التاريخ، سيّما ما قارب وقته، وعرف مسالك الأرض وممالكها، وحذق في علم الأصطرلاب وحلّ التقويم. وأذن له [العلّامة شمس الدين] الأصفهاني في الإفتاء على مذهب الشافعيّ.
وباشر في كتابة الإنشاء بدمشق أيّام بني محمود حتى ولي أبوه محيى الدين كتابة السرّ بها. ثم قدم معه إلى القاهرة في سنة ثمان وعشرين [وسبعمائة] لمّا ولي كتابة السرّ بديار مصر، وكان يقرأ البرد على السلطان.
ثمّ سار مع أبيه إلى دمشق؛ وعاد معه إلى القاهرة لمّا ولي كتابة السرّ ثانيا في سنة ثلاث وثلاثين.
وقرأ أيضا البريد على السلطان، وجلس في دار العدل.
فاتّفق ذات يوم وقوع مفاوضة بينه وبين الأمير صلاح الدين يوسف الدوادار، فاحتدّ على الدوادار وتنافرا. فما زال هو وأبوه بالسلطان حتّى صرفه وأقام [سيف الدين] بغا دوادارا عوضه.
[حدّة مزاجه]:
فلمّا قدم الأمير تنكز نائب الشام في سنة سبع وثلاثين وسأل السلطان في ولاية علم الدين [محمّد] ابن القطب كتابة السرّ بدمشق فأجابه وولّاه، أخذ شهاب الدين [١٦٠ ب] يضع منه عند السلطان بأنّه قبطيّ لا يصلح لكتابة السرّ، والسلطان يغضي عن ذلك مراعاة لنائب الشام.
فلمّا كتب توقيعه رسم له بزيادة المعلوم فأبى شهاب الدين من ذلك وشافه السلطان بكلام خشن، وقد قويت نفسه وشرست أخلاقه على عادته، واسترسل في الكلام الجافي حتى قال:
كيف يكون رجل أسلميّ (١) تعمله كاتب السرّ وتزيد جامكيّته؟ ما يفلح من يخدمك، وخدمتك عليّ حرام!
وقام من [بين] يدي السلطان مغضبا، والأمراء وقوف بالخدمة، وقد اقشعرّوا من كلامه، وما شكّوا في أنّ السلطان يضرب عنقه. وسار شهاب الدين إلى أبيه وعرّفه ما وقع فبهت. فبادر للقيام في تدبير ما فرط من ابنه وتلافي خطئه. فقبّل الأرض عند ما دخل على السلطان وسأل العفو فأجابه السلطان بأنّه لأجله قد حلم عليه وسامحه، وتقدّم إليه بإحضار ابنه [٨٢ أ] علاء الدين عليّ ليقوم مقام شهاب الدين في قراءة البريد وتنفيذ الاشتغال، فاعتذر بأنّه صغير، فقال: أنا أربّيه كما أعرف فأحضره.
ولزم شهاب الدين بيته حتّى مات أبوه، واشتغل أخوه علاء الدين بكتابة السرّ من بعده. [ف] كتب قصّة يسأل فيها السفر إلى دمشق.
[[نكبته]]
فحرّكت هذه القصّة من السلطان ساكنا وأمر طاجار الدوادار أن يطلبه إلى قاعة الصاحب من القلعة وأن يعرّيه حتى يكتب خطّه بعشرة آلاف
(١) الأسلميّ: من اعتنق الاسلام حديثا.