وخرج من مصر بكّار بن قتيبة القاضي وجماعة إلى دمشق، وقد حضر أهل الشامات والثّغور.
فأمر أحمد بكتاب خلع فيه الموفّق من ولاية العهد لمخالفته المعتمد وحصره ايّاه، وكتب فيه: إنّ الموفّق خلع الطاعة، وبرئ من الذمّة، فوجب جهاده على الأمّة-. وشهد على ذلك جميع من حضر، إلّا بكّار [ا]، ومحمد بن إبراهيم الإسكندرانيّ، وفهد بن موسى، فإنّهم ضعّفوا الأمر. فتغافل عنهم وأسرّها في نفسه لبكّار.
فبلغ الموفّق ذلك فكتب إلى أنصاره يعيّر أحمد بن طولون على ما فعله [ويقول]: إنّ الله عزّ وجلّ قد قرن بطاعته وطاعة رسوله طاعة أولي الأمر [٨٨ ب] الذين انتخبهم الله عزّ وجلّ لإعزاز دينه وإقامة معالمه فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: ٥٩]. وإنّ عدوّ الله المباين لجماعة المسلمين المعروف بأحمد بن طولون أظهر ما كان منه من معصية ومن شقاق، وكفر ونفاق، فيما بين أقاصي المغرب إلى أكناف العراق، ومرق عن الدين، وخالف أمير المؤمنين، وأخرب ثغور المسلمين، وقاتل فيها المجاهدين، بأهل الفسق من المخالفين، واستباح حرمهم، وسفك دماءهم، فلمّا تبيّن أمير المؤمنين أمره، وعرف كفره وغدره، تبرّأ إلى الله عزّ وجلّ منه ولعنه لعنا ظاهرا، وأمر بلعنه ليلحقه ذلك من خواصّ الأولياء وعوامّ الرعايا. اللهمّ العنه لعنا يفلّ حدّه، ويتعس جدّه، ويجعله مثلا للغابرين، إنّك لا تصلح عمل المفسدين، يا ربّ العالمين.
[[وفاة ابن طولون]]
ثمّ خرج أحمد بن طولون من دمشق إلى طرسوس، فبعث من المصيصة بوجوه من معه إلى يازمان الخادم يدعوه إلى طاعته وأمّنه، فلم يجبه.
فسار إليه وقد تحصّن بطرسوس، ونزل عليها بجيوشه في شدّة البرد. ثم رحل عنها بغير طائل، وأقام بأذنة. ثمّ سار منها [إلى] المصيصة فأقام بها أيّاما، وعرضت له علّته التي مات منها، وكان بدؤها من هيضة سببها أكله لبن جاموس استكثر منه.
فأغذّ في السير إلى مصر، والعلّة تزيد به حتّى بلغ الفرما. فركب في النيل إلى الفسطاط، وقدم يوم الخميس لعشر بقين من جمادى الآخرة سنة سبعين ومائتين. فأوقف بكّارا القاضي للناس وأمر بسجنه، ثمّ أطلقه في شعبان.
وتزايدت علّته فأمر الناس بالدعاء له فغدوا إلى مسجد ابن محمود بسفح المقطّم يوم الاثنين لستّ خلون من شوّال ومعهم القصّاص فدعوا له. ثمّ غدوا أيضا للدعاء. وحضرت اليهود والنصارى ناحية. وحضروا أيضا اليوم الثالث ومعهم النساء والصبيان. وأقاموا على ذلك أيّاما. فتوفّي أحمد بن طولون ليلة الأحد لعشر خلون من ذي القعدة سنة سبعين ومائتين، وعمره خمسون سنة وشهر وثمانية وعشرون يوما، ومدّة إمارته بمصر ستّ عشرة سنة وشهر وسبعة وعشرون يوما.
وأحصي من قتله صبرا أو مات في حبسه فكانوا ثمانية عشر ألف إنسان. وخلّف عشرة آلاف دينار، وثلاثة وثلاثين ولدا. وبلغ خراج مصر في أيّامه أربعة آلاف دينار وثلاثمائة ألف دينار. وكان يتصدّق في كلّ أسبوع بثلاثة آلاف دينار سوى الراتب، ويجري على أهل المساجد في كلّ شهر ألف دينار. وأبيع القمح في أيّامه عشرة أرادب بدينار، والخبز ستّين رطلا بدرهم.
[[شعر في ابن طولون]]
ولمّا بلغ المعتمد موت أحمد بن طولون اشتدّ وجده وجزعه عليه وقال [المتقارب]: