[[ ... ويسوق شاهدا على حزمه ودهائه]]
فعلمت أنّ هذا من كلام صاحبه، وأنّي منكوب: وكان عندي في ذلك الوقت سبعة آلاف دينار، عينا [وجواهر] سوى غيرها. فضاقت عليّ الدنيا، وسهرت ليلتي بأسرها أفكّر في أمري معه.
فوقع لي الرأي في الثلث الآخر من الليل. فركبت في الحال إلى داره، فوجدت الأبواب مغلقة.
فطرقتها، فقال البوّابون: من هذا؟ .
فقلت: ابن الجصّاص.
فقالوا: ليس هذا وقت وصول، والوزير نائم.
فقلت: عرّفوا الحجّاب أنّي حضرت في مهمّ.
فعرّفوهم، فخرج إليّ أحدهم فقال: إنّه إلى ساعة ينتبه، فاجلس.
فقلت: الأمر أهمّ من ذلك، فأنبهه وعرّفه عنّي هذا! .
فدخل وأبطأ ساعة، ثمّ خرج وأدخلني حتى انتهيت إلى مرقده على سرير، وحوله نحو خمسين فرّاشا وغلمانا كأنّهم حفظة، وقد قاموا وبعض الفرش تنقل، وهو جالس في فرشه مرتاعا، قد ظنّ أنّ حادثة قد حدثت، أو أنّي جئته برسالة الخليفة، وهو متوقّع لما أورده. فرفعني وقال: ما الذي جاء بك في هذا الوقت؟ .
فقلت: خير! ما حدثت حادثة، ولا معي رسالة، ولا جئت إلّا في أمر يخصّني ويخصّ الوزير، ولم تصلح مفاوضة فيه إلّا على خلوة شديدة.
فسكت، ثمّ قال لمن حوله: انصرفوا- فمضوا. وقال: هات! .
فقلت: أيّها الوزير، قد قصدتني أقبح قصد، وشرعت في هلاكي وإزالة نعمتي. وفي إزالتها خروج نفسي، وليس من النعمة والنفس عوض.
ولعمري إنّي أسأت في خدمتك، وقد كان في بعض هذا التقويم بلاغ عندي، وقد اجتهدت في إصلاحك بكلّ ما قدرت عليه ووسّطت بيني وبينك فلانا وبذلت كذا. فأبيت إلّا الإقامة على أذاي.
[مثل السنّور والبقّال الذي يريد خنقه ... ]
وليس شيء أضعف من السنّور. فإذا عاثت في دكّان البقّال فظفر بها ولزّها إلى الزاوية ليخنقها، وثبت عليه فخدشت وجهه وبدنه ومزّقت ثيابه وطلبت الحياة بكلّ ما يمكنها. وقد وجدت نفسي معك في هذه الصورة ولست أضعف بطشا من السنّور. وقد جعلت هذا الكلام عذرا بيننا: فإن نزلت تحت حكمي في الصلح، وإلّا فعليّ وعليّ! - وحلفت له بأيمان غليظة- لأقصدنّ الخليفة الساعة ولأحوّلنّ إليه من خزانتي ألفي دينار عينا وورقا، ولا أصبح إلّا وهي عنده- وأنت تعلم قدرتي عليها- وأقول له: خذ هذا المال، وسلّم ابن الفرات إلى فلان واستوزره- وأذكر له أقرب من يقع في نفسي أنّه يجيب إلى تقليده، ممّن له وجه مقبول ولسان عذب وخط حسن، ومخرقة (١) حادّة. ولا أعتمد إلّا على بعض كتّابك، فإنّه لا يفرّق بينك وبينهم إذا رأى المال حاضرا. فيسلمك في الحال، ويراني المقلّد بعين من أخذته وهو صغير فجعلته وزيرا، وغرم عنه هذا المال الكثير.
ويراني وليّ نعمته فيخدمني ويتدبّر برأيي وتدبيري في جميع أمره. فأسلمك إليه فيفرغ عليك العذاب حتّى يأخذ الألفي ألف دينار منك بأسرها. وأنت تعلم أنّ حالك تفي بها، ولكنّك تفتقر بعدها، ويرجع المال إليّ ولا يذهب منه دانق. وأكون قد أهلكت عدوّي وشفيت غيظي واسترجعت مالي
(١) المخرقة: الشّعبذة والسحر.