تفقّه يرفعك الله في الدنيا والآخرة. واعلم يا ابن أخي أنّ العلم لا يحتمل الدنس. وفّقك الله! أرشدك الله! سدّدك الله!
(قال): فمضيت إلى أبي مصعب ابن عبد الله فكلّمته وسألته أن يكلّم لي بعض أهلنا- رجلا من قريش أسميته له- أن يدفع إليّ شيئا من دنياه، فإنّه كان بي من الفقر والفاقة ما الله به عليم.
فقال لي أبو مصعب: أتيت الرجل وكلّمته في بابك، فقال: أتكلّمني في رجل كان منّا فخالفنا؟
- فلم أدعه حتّى أعطاني مائة دينار، وهذه [هي]! - فدفعها أبو مصعب لي، ثمّ قال أبو مصعب: إنّ أمير المؤمنين هارون الرشيد، أصلحه الله، قد كتب إليّ أن أصير إلى اليمن قاضيا، فتخرج معي، فلعلّ الله أن يعوّضك ما أملت من هذا الرجل وأكثر.
[[رواية أخرى في محنته ومناظرته ببغداد]]
(قال): فخرج أبو مصعب قاضيا على اليمن وخرجت معه. فلمّا صرنا باليمن وجالسنا الناس كتب مطرّف بن مازن إلى أمير المؤمنين: إن أردت يا أمير المؤمنين، أصلحك الله، اليمن، وأردت أن لا يخرج عن يدك، فأخرج عنها محمد بن إدريس- وذكر معي أقواما من الطالبيّين. فكتب أمير المؤمنين هارون إلى حمّاد البربريّ أن اقبض على محمد بن إدريس وأوثقه بالحديد وأنفذه إليّ إن شاء الله!
فأخذني حمّاد وثقّلني بالحديد، ولم يكن لأبي مصعب حيلة في أمري. فلم أزل مثقلا بالحديد من اليمن إلى أن قدمت على أمير المؤمنين، وهو إذ ذاك [١٢٥ أ] بالرقّة، فأدخلت عليه، وأخرجت من عنده، وكان قد تبقّى معي من تلك الدنانير نحو من خمسين دينارا. وكان محمد بن الحسن يومئذ بالرقّة. فأنفقت تلك الدنانير على كتبهم. (قال):
فوجدت مثلهم ومثل كتبهم كمثل رجل كان عندنا يقال له فروج، وكان يحمل دهنا يبيعه في زقّ له، وكان إذا قيل له: عندك برسيان؟ قال: نعم- عندك زنبق؟ قال: نعم- عندك خيريّ (١)؟ قال: نعم، فإذا قيل: أرنا منه- وكان للزقّ رءوس كثيرة- يخرج لهم من تلك الرءوس، وإنّما هو دهن واحد: وكذلك وجدت كتبهم، إنّما يقولون:
كتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وهم يخالفون الله ويخالفون الرسول.
(قال): وسمعت محمد بن الحسن، وأنا من أشدّ الناس غمّا، وهو يقول لأصحابه: إن تابعكم محمد بن إدريس، فما عليكم من حجازيّ بعده كلفة.
فجئت يوما فجلست إلى محمد بن الحسن، وأنا من أشدّ الناس همّا وغمّا، وقلقا وأرقا من سخط أمير المؤمنين عليّ، وأخرى أنّ زادي قد فني والدراهم التي كانت معي أنفقتها على كتبهم.
فلمّا أن جلست إليه وبصرني، أقبل يطعن على دار الهجرة. فقلت: على من تطعن؟ أعلى البلد أم على أهله؟ فو الله لئن طعنت على أهله، فإنّما تطعن على مثل أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار رضي الله عنهم. وإن طعنت على البلد، فإنّما تطعن على بلدته التي دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبارك الله لهم في صاعهم ومدّهم، وحرّمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما حرّم إبراهيم مكّة، لا يقتل صيدها. فعلى أيّهما تطعن؟
فقال لي: معاذ الله أن أطعن على أحد منهم أو على بلدته، وإنما أطعن على حكم من أحكامهم.
قلت: وما هو؟
(١) البرسيان والزنبق والخيريّ أزهار، وعطور تستخرج منها.