النار، فكنت أخاف أن تستلبنا جميعا وتحرقنا لعظم لسانها، حتّى بدرت امرأة أخرى فقالت:
ابشر يا أحمد برضا ربّك! - وصاحت وصاحبتها على النّار فخمد لسانها وبعد عنّا. فسرت وقد أمنت نفسي. فقلت للمرأة الأولى: من أنت؟
فقالت: أنا أمّ الجهاد بطرسوس، الشاكرة لمزيّتك في شدائدنا وعفوك عن جرائمنا.
وقلت للأخرى: من أنت؟
قالت: أنا الصدقة التي كنت تفرّقني يمينا وشمالا، وصباحا ومساء.
وانصرفتا عنّي وهما تقولان: لا تنس شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله.
ثمّ نادى مناد: أدخلوه من باب المغفرة! - فدخلت إلى هذا الموضع.
فقلت: فما هذه الكآبة العارضة لك؟
قال: هي استحياء من ربّي لما اقترفته من الآثام وأتيته من العظائم.
وحدّث أحمد بن دحيم أحد قوّاد أحمد بن طولون قال: رأيت أحمد بن طولون في النوم بعد موته، وهو في حال جميلة. فسألته عن حاله فقال لي: يا ابن دحيم، ما ينبغي لمن سكن الدنيا أن يحتفر حسنة [يعملها] ولا سيّئة يأتيها: عدل بي عن النار إلى الجنّة بتثبّتي (١) على متظلّم إليّ عييّ اللسانشديد التهيّب فسكّنت منه وصبرت عليه حتّى قامت حجّته وتقدّمت بإنصافه. وما في الآخرة على [٩٠ أ] رؤساء الدنيا أشدّ من ترويع الحجّاب لملتمسي التظلّم والإنصاف.
وحدّث محبوب بن رجاء قال: رأيت فيما يرى النائم أحمد بن طولون في حال حسنة، وكأنّي
سألته عمّا لقي، فقال: غفر لي.
فقلت: مع عظيم ما اقترفته؟
قال: خفّف عنّي أنّ أكثر من أسأت إليه كان مستحقا من ربّه أكثر ممّا نزل به منّي، وإنّما كنت له عقوبة بعثها الله عليه. وإنّما البلاء في ظلم من لا ظلم له.
(قال) قلت: فمستقرّك في الجنّة؟
قال: ما استقرّ أحد في الجنّة ولا النار بعد، ولكنّه تلوح لي دلالة المغفرة.
[كرمه مع رعاياه وتقشّفه مع نفسه]:
وأطبقت جريدته من الموالي على سبعة آلاف رجل. ومن الغلمان على أربعة وعشرين ألف غلام. ومن الخيل الميدانيّة على سبعة آلاف رأس. ومن الجمال على ألف وسبعمائة جمل.
ومن بغال القباب والنقل ستّمائة بغل. ومن المراكب الحربيّة مائة مركب. ومن الدوابّ لركابه [على] مائة وثلاثين دابّة.
وأنفق على بناء الجامع ونفقته مائة وعشرين ألف دينار. وعلى المارستان ومشتغله ستّين ألف دينار. وعلى حصن الجزيرة ثمانين ألف دينار.
وعلى الميدان مائة وخمسين ألف دينار. وعلى مرمّات الثغور مائتي ألف دينار.
وكان قائم صدقاته ألفي دينار، سوى ما يطرأ عليه من النذور، وصدقات الشكر على تجديد النعم.
وراتب مطبخه وعلوفته في كلّ يوم ألف دينار، وما يجريه على أبناء الستر والمستخدمين سرّا، سوى ما كان يجريه من مال السلطان، خمسمائة دينار، وما يحمل لصدقات الثغور، في كل شهر ألفا دينار.
وحمل إلى بغداد في أربع سنين ممّا نقدت به
(١) في المخطوط: بشتبّثي.