للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ثمال وأحكم التدبير فيما قرّره معه، ووعده ومنّاه حتى نزل من قلعة حلب وسلّمها إلى وال من قبل المستنصر، وسار من حلب يريد القاهرة. فلمّا بلغ إلى رفح بلغه القبض على اليازوريّ فقال: والله [٣٦٥ أ] إنّي أموت بحسرة نظرة إلى من استلّني من ذلك الملك وأخرجني بلا رغبة ولا رهبة إلّا بحسن السياسة. ولو رام ذلك منّي قسرا لتعذّر عليه.

[أمثلة من أريحيّته]

وكان له من المآثر المرضيّة والخلال الحميدة والأفعال الجميلة (١) والأخلاق الرضيّة ما يتجمّل الملوك بذكرها: منها أنّه كانت له مائدة يحضرها كلّ قاض وفقيه وأديب جليل القدر، فيجتمع عليها قريبا من عشرين نسمة. حدّث القاضي عمدة الدولة ابن حميد قال: كنت أجلس على يساره، فإذا ازدحموا وكثر تضايقهم على المائدة، جذبني إليه حتى يكاد ينحرف عن مجلسه. فأذكر يوما ونحن مجتمعون، إذ استؤذن على الفقيه أبي عقبة، فأمر بدخوله، فلمّا دخل لم يجد موضعا فجذبني إليه بحيث صرت إذا مددت يدي إلى المائدة لا أرجعها إلى فمي إلّا بكلفة، خوفا أن أصيبه بها. فبينا أنا كذلك وقد مددت يدي ورجعتها، وهو قد مدّ يده فلم أمهل حتى ترجع فأصاب مرفقي جوخة (٢) صدره، فورد عليّ أمر عظيم من ذلك، وتأخّرت وقبّلت الأرض وقلت:

قد بسّطنا إنعام سيّدنا إلى حيث لا نستحقّه، وأخرجنا إلى سوء الأدب. ولو أنعمت بنصب مائدة نجتمع عليها بحضرته لكان لنا في ذلك الشرف الأوفى والفخر الأسنى، ولم ننته إلى هذا الحدّ في سوء الأدب.

فقال: وما الذي أوجب قولك هذا حتّى ذكرت ما ذكرت؟ ولقد نكدت بإيراده.

فقلت: يا سيّدنا نسيء آدابنا فتغفر ونعترف بالخطإ فتنكره علينا، ونعتذر عن ذلك فتلومنا عليه، فما ندري بماذا نقابل إحسانك، ولا بأيّ لسان نشكر تفضّلك.

فقال: وما الذي كان حتى نحتاج إلى كلّ هذا؟

- وأقبل يجذبني وأنا أتقبّض، حتى زاد تمكّني باجتذابه لي فوق ما كنت عليه أوّلا، وقرب كتفي من صدره، وهو منطلق الوجه ظاهر البشر. وكان قبل ذلك اليوم يسمع حديثنا على المائدة ولا يكاد يجيب لأنّه كان كثير الصمت قليل الكلام لا نسمع منه إلّا اللفظ القليل عن الكلام الكثير. فابتدأ ذلك اليوم يتحدّث بما يستطاب حتى يزيل عنّي ما اعتراني من الغمّ بما كان منّي. (قال: ) وأقمت معه خمس عشرة سنة قبل وزارته ملازما له في المبيت والصباح، فكنت أراعيه في حالاته كلّها ليلا ونهارا فلا أراه يتغيّر عليّ منها شيء، ولا يتبيّن لي منه غضب من رضى. فحدّثت أبي بذلك فقال: يا بنيّ، إنّي لم أكن لأؤثر سماع ذلك منك، فكيف سماع غيري له؟ فلا تحدّث به أحدا، وتلطّف في تأمّل ذلك منه إلى أن تقف عليه، فإنّك إذا حدّثت به نسبت إلى غلظ الطبع وثخانة الحسّ والبله.

فأقبلت أدقّق التأمّل له في حالتي غضبه ورضاه، شهورا قبل أن يتبيّن لي: فكان إذا رضي تورّدت وجنتاه بحمرة. وإذا غضب اصفرّت محاجر عينيه. فعرّفت أبي بذلك، فقال: يا بنيّ، هذا غاية في سكون النفس وصحّة الطباع واعتدال المزاج.

وكانت طبائعه قريبة من الاعتدال، فإذا أحسّ بميل طباعه عمّا يعهده، أخذ في إصلاحه حتّى تعود إلى الاستقامة.


(١) اتّعاظ ٢/ ٢٤٣.
(٢) في المخطوط: جوجو. والجوخة نوع من الرداء الصوفي (دوزي).

<<  <  ج: ص:  >  >>