للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ونادى مناديه بعد ما رحل: من عزم على صحبتنا للجهاد فلينهض معنا! ومن كان ذا جبن عند اللقاء وفشل عند مصادمة الأعداء، فليرجع إلى موضعه ووطنه، وهو في حلّ وسعة.

وقدم عسكر برقة. وقدم رسول ملك الروم، فوصله بألف دينار وكسى نفيسة، وردّه غرّة ربيع الآخر.

وأعاد النداء في العسكر بمثل ما تقدّم، وأتته القبائل شيئا بعد شيء، ونزل إليه أهل تلك القلاع فأمّنهم وعفا عنهم، وأمر الناس بالتهيّؤ للحرب.

وركب نجيبا وسار على مقدّمة العسكر يريد لقاء أبي يزيد على باغاية. فلمّا علم به أبو يزيد ترك حصارها وفرّ. فنزل المنصور عليها وفرّق مالا كثيرا في ضعفائها.

ثمّ رحل عنها يوم الأربعاء لعشر بقين من ربيع الآخر، وسار حتى وصل إلى نقاوس.

ورحل عنها وقد لبس درعا ومغفرا. وأمر الناس أن يسيروا على تعبئة الحرب، وكان أبو يزيد على طبنة يحاصرها. فلمّا سمع طبول المنصور فرّ إلى جهة الرمال. فنزل المنصور على طبنة. وقدم إليه جماعة من قبائل كتامة. ثمّ رحل لليلتين [١٩١ ب] خلتا من جمادى الأولى يريد بسكرة فنز [ل] بقسطيلية (١). ووافاه جعفر بن عليّ بن حمدون عامل المسيلة بهدايا من خيل وإبل ومال.

وقدم معه بثائر قام بجبل الأوراس ادّعى أنّه من آل البيت ودعا إلى نفسه، فاجتمع عليه البربر وتلقّب «بعبد الله الناصر لدين الله المحتسب في سبيل الله» فشهّر على جمل وسلخ حيّا (٢) وصلب.

[وصوله إلى بسكرة ثمّ المسيلة]:

ثمّ رحل فنزل على بسكرة وقد فرّ أبو يزيد عنها إلى جبل سالّات على جهة الرمال حيث لا تسلك العساكر لعدم الماء. فمضى المنصور إلي المسيلة وقد جمع أبو يزيد النكّار من جبل سالات ونزل إلى جبل كيانة (٣) في خلائق كثيرة، وقصد أن يبيّت المنصور بمدينة مقرة، فكمن في تلك الأوعار والجبال. فلمّا طلعت الخيل التي له على العسكر تصايحوا: «العدوّ! العدوّ! ». فخرج المنصور وقد لبس درعا وشدّ وسطه بمنطقة وأرخى لعمامته ذؤابة، وهزّ رمحا وكسره واخترط سيفه ذا الفقار وقال: «ليس هذا يوم رمح ولكنّه يوم جلاد بالسيوف! ». وعبّأ عساكره ميمنة وميسرة وقلبا، وجعل خلف كلّ طائفة من هذه ردءا من عبيده، وفرّق السلاح في العسكر، فالتحم القتال. وأقبل أبو يزيد فقاتلوا قتالا كبيرا فانهزمت ميمنة المنصور إلى أن صارت إلى الردء الذي خلفها فثبتوا بمراكزهم، وأردفها المنصور بكتيبة من قبله فقويت الميمنة. ومال أصحاب أبي يزيد على الميسرة فهزموها وقتل جماعة. فغضب المنصور وقصد أبا يزيد بالكتيبة التي معه فانهزم أبو يزيد بمن معه، وتمادى المنصور في طلبهم فقتلوا قتلا ذريعا. وانحاز أبو يزيد إلى قلعة عقار ثمّ فرّ ليلا إلى جبل سالّات. فغنم أصحاب المنصور جميع ما كان له، ورجع المنصور إلى مضربه بعد العشاء بالمشاعل بين يديه.


- كان ينظر في كتب التصوّف. ويضيف أنّ المنصور تعوّد أن يسلخ المتمرّدين عليه حتّى سمّي «السلّاخ».
(١) هي قسطيلية الزاب، بين بسكرة وطبنة- لا قسطيلية الجريد التونسيّ. وفي المخطوط: سبيطلة وهو خطأ من النسّاخ.
(٢) في رواية ابن حمّاد ٢٦ أنّ هذا الثائر ابن صائغ قيروانيّ-
(٣) نتوقّع أنّ جبل كيانة أكثر علوّا من جبل سالّات، فلذلك نستغرب فعل «نزل» هنا. وسيقول المقريزي بعد قليل:
«فارتفع إلى جبال كيانة». فلعلّ جهله بجغرافية إفريقية والمغرب هو الذي أوقعه في هذا الاضطراب في التعبير.
وقد يكون «نزل» بمعنى: حطّ الرحال.

<<  <  ج: ص:  >  >>