[[وفادته على غازان]]
وفي شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وستّمائة، خرج من دمشق في جماعة إلى غازان متملّك التتر لمّا قدم إلى الشام، وكان قد نزل تلّ راهط. فلم يمكّنه الوزير [سعد الدين] من لقاء غازان فعاد. ثمّ إنّه توجّه إليه ثانيا واجتمع به وكلّمه بغلظة، فكفّ الله يد غازان عنه: وذلك أنّه قال لترجمان الملك غازان: قل للقان: أنت تزعم أنّك مسلم، ومعك قاض، وإمام، وشيخ، ومؤذّنون على ما بلغنا، فغزوتنا. وأبوك وجدّك هولاكو كانا كافرين، وما عملا الذي عملت عامدا، فوفيا. وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت! - ومرّ في مثل هذه [٩٧ أ] المحاسبة، وقد حضر قضاة دمشق وأعيانها. فقدّم إليهم غازان طعاما فأكلوا، إلّا ابن تيميّة. فقيل له: لم لا تأكل؟
فقال: كيف آكل من طعامكم، وكلّه ممّا نهبتم من أغنام الناس وقطعتم من أشجار الناس؟
ثمّ إنّ غازان طلب منه الدعاء. فقال في دعائه:
اللهمّ، إن كنت تعلم أنّه إنّما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وجهادا في سبيلك، فأيّده وانصره.
وإن كان للملك والدنيا والتكاثر، فافعل به واصنع! - يدعو عليه، وغازان يؤمّن على دعائه، وقضاة دمشق قد خافوا القتل وجمعوا ثيابهم خوفا أن يبطش به غازان فيصيبهم من دمه. فلمّا خرجوا قال قاضي القضاة ابن الصصرى لابن تيميّة: كدت تهلكنا معك. ونحن ما نصحبك من هنا!
فقال: وأنا لا أصحبكم!
فانطلقوا عصبة وتأخّر ابن تيميّة في خاصّة من معه. فلم يبق أحد من الحرّاس والأمراء حتّى أتوه من كلّ جهة وتلاحقوا به ليتبرّكوا برؤيته. فما وصل دمشق إلّا في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه، ودخلوا. وأمّا القضاة فخرج عليهم جماعة فجرّدوهم من ثيابهم، ودخلوا المدينة عراة.
[[استنهاضه الهمم لجهاد التتار]]
فلمّا عاد غازان إلى بلاده، ركب ابن تيميّة البريد إلى مهنّأ بن عيسى واستحضره إلى الجهاد.
وركب بعده إلى القاهرة واستنفر السلطان. وواجه بالكلام الغليظ أمراءه وعسكره. ولمّا جاء السلطان إلى شقحب لاقاه وجعل يشجّعه ويثبّته. فلمّا رأى السلطان كثرة التتار قال: يا لخالد بن الوليد!
فقال له: لا تقل هذا. بل قل: يا لله! واستغث بالله ربّك ووحّده وحده تنصر، وقل: يا مالك يوم الدين، إيّاك نعبد وإيّاك نستعين! - وما زال يطلّ تارة على الخليفة المستكفي بالله، وتارة على الملك الناصر محمد بن قلاوون ويهديهما ويربط جأشهما، حتى جاء نصر الله والفتح. وقال للسلطان: أنت منصور فاثبت.
فقال له بعض الأمراء: قل: إن شاء الله!
فقال: إن شاء الله، تحقيقا، لا تعليقا! - فكان كما قال.
[[حملته على بائعي المسكرات]]
ولمّا أعيدت الخطبة بجامع دمشق- بعد رحيل غازان- للملك الناصر محمد بن قلاوون في يوم الجمعة سابع عشرين شهر رجب من السنة المذكورة، دار [ابن تيميّة] بنفسه على ما جدّد من الخمّارات وأراق خمورها وكسر أوانيها وشقّ ظروفها، وعزّر الخمّارين هو وجماعته. وكان الناس يمشون معه، وهو يدور على الجماعات ويقرأ عليهم سورة القتال وآيات الجهاد وأحاديث الغزو والرباط والحرس، ويحثّهم على ذلك.
فلمّا عاد التتار إلى حلب في سنة سبعمائة،