للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الحسناء من لذّة جماعها، وحسبك!

فدعت له وانصرفت.

وقال مرّة: أنا أرى أن أدفع بمالي عن رجالي، وبرجالي عن نفسي. وما في الأرض أبغض إليّ ممّن يزيد ماله على فعاله، وحالته على كفايته.

واستكتب كاتبا فقال له: إنّي جعلتك صاحب خبر على لفظي، فانظر كلّ ما يجري بيني وبين من يخاطبني من الناس من صغير وكبير، فاكتب خطابه وجوابي له واعرضه عليّ! - وكان يراعي ذلك أشدّ مراعاة.

وقال أبو جعفر ابن عبدكان: كنّا ننشئ الكتب إلى السلطان وغيره وإلى العمّال، فيرد في الأجوبة غير ما صدرت به الكتب إليهم. فذكرت له ذلك، فضحك وقال: هذه أجوبة عن أشياء أضمّنها أنا في الكتب ولا أطلعكم عليها.

ولم يكن كتّابه يختمو [ن] كتابا ولا يحرّرو [ن] نسخة حتى تعرض عليه، فإن ارتضاه أمضاه، وإلّا أمر بإصلاحه.

[[حذره من الجواسيس]]

ونظر مرّة شيخا في جملة من ينظر إليه وهو راكب في جيشه. فأمر بالقبض عليه [وإحضاره] وما زال به حتّى اعترف أنّه صاحب خبر عليه من الموفّق، وأنّ معه كتب الموفّق إلى القوّاد وغيرهم.

فسئل عن ذلك فقال: رأيت هذا الرجل في وسط الناس، وهو مشغول بالنظر إليّ والتأمّل فيّ، لا يطرف عنّي، فارتبت به، وكان كما ظننت.

ورأى يوما رجلا في جملة من دخل للسلام، فأمر بعقابه وقال: اصدقني ويلك! من أرسلك؟ - فاعترف أنّه صاحب خبر للموفّق. فأمر به إلى المطبق.

وسئل عن معرفة ذلك، فقال: رأيت هذا البارحة في النوم وكأنه يروم الدخول إليّ، فمنع من ذلك فتسلّق من طاق في مجلسي ليرى ما أعمل. فكانت عبارة رؤياي تدلّ على أنّه صاحب خبر لتسلّقه عليّ وتجسّسه، فصحّ فيه ما قدّرته.

ورأى مرّة وهو في مستشرف له على بعض بساتينه سائلا في ثوب خلق وحال سيّئة، وهو جالس يتأمّل المستشرف. فأحضر رغيفا أزيد من رطلين وجعل فيه دجاجة وفرخا وفرّوجا (١) وشواء وقطع لحم وفالوذجا، وغطّاه برغيف آخر مثله وعمل فوقه لوذنجا وغطّاه برقاقتين، وبعث به إلى السائل، وجعل يتأمّل ما يكون منه. فما هو إلّا أن أخذ ذلك [حتى] أمر بإحضاره واستنطقه فأحسن الجواب ولم يضطرب. فقال: أينالكتب التي معك؟ هاتها، واصدقني صدقا ينجيك من العقوبة بالسياط.

فاعترف أنّه صاحب خبر وأنّ معه كتبا، ولم يوصلها لتدّبر أمره. ثمّ قال [أحمد]: رأيت هذا الرجل على ما هو عليه من سوء الحال، فأشفقت عليه وأردت أن أسرّه بما أنفذت إليه ممّا يسرّ به الشّبعان، فكيف الجائع؟ فما هشّ له ولا مدّ يدا إليه، ولا رأيت منه حسن القبول له. فنفر قلبي منه وقلت: هذا رجل عينه ملأى وفي غنى عن هذا وهو جاسوس. فأحضرته، وكان ما رأيتموه من صحّة كلامه وجودة أجوبته، فزاد إنكاري لأمره من جهة قوّة قلبه واجتماع لبّه، وأنّه ليس عليه من شواهد الفقر ما يدلّ على جوعه.

وكان من عادته أن يركب سحرا في نفر من أصحابه ويجتاز بمواضع شعثة ليطالع جنايات أهل الشّر في الليل، فمن ظفر به منهم ضرب عنقه.


(١) الفرّوج: فرخ الدجاجة. والفرخ: ولد الطائر عامّة.

<<  <  ج: ص:  >  >>