للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

المستنصر إذا أراد أن يستدعي الوزير كما كان قد تقرّر لأبي سعد التستريّ مع الوزير الفلاحيّ. فشقّ هذا على الوزير أبي البركات، وذلك أنّه كان إذا حضر اليازوريّ عند المستنصر تحدّث طويلا، وتكون السيّدة من وراء المقطع فيدور بينهم الكلام فيما يحتاج إليه، ثمّ تستدعي الوزير، فإذا دخل وعرض ما يريد من أمور الدولة لا يجيبه إلّا اليازوريّ، ثمّ يلتفت إلى الخليفة بعد ما يجيب الوزير، ويقول: أليس هو الصواب؟

فيقول الخليفة: نعم.

ويخرج الرسول من وراء المقطع ويقول عن السيّدة: هو الصواب.

فصار الوزير كأنّه إنّما يعرض على اليازوريّ لا على الخليفة والسيّدة ولا يقدر على الاعتراض فيما يقوله، ولا يجد بدّا من امتثال ذلك.

[سعي الوزير الجرجرائيّ لإقصائه عن السيّدة]

فشقّ عليه ما صار إليه وأخذ في إعمال الحيلة، فأشار عليه أبو الفضل صاعد بن مسعود (١) أن يحسّن للخليفة تولية اليازوريّ القضاء، فإذا تقلّد القضاء وقع في هور (٢) كبير وشغله عن ملازمة السيّدة، فيصل الوزير حينئذ إلى استخدام ولده مكان اليازوريّ، ويستوي [٣٦٠ ب] له الأمر ويملك جهتي السلطان والسيّدة.

فاتّفق حضور قاضي القضاة قاسم بن عبد العزيز بن النعمان عند الوزير وتقلّقه من خليفتيه أبي عبد الله محمد القضاعيّ وأبي عبد الله أحمد بن محمّد ابن أبي زكريّا وشكوى المذكورين من قاضي القضاة مع توعّك أبي محمد اليازوريّ

وتخلّفه في داره أيّاما. فخلا الوزير بالخليفة وأعاد عليه ما ذكره كلّ من القاضي وخليفتيه وشنّع أمر قاسم وقبّحه. فقال الخليفة: فمن نستبدل به؟

فقال: عبيدك كثير؛ وبين يديك من يتجمّل الحكم به مع ثقته وأمانته وقربه من خدمتك.

فقال: ومن هو؟

قال: القاضي أبو محمد.

فقال: ذاك في خدمة مولاتنا الوالدة، ولا تفسح له في ذلك.

فقال: يا أمير المؤمنين، هي- خلّد الله ملكها- أغير على دولتك وأحسن نظرا إليها من أن تحول بينها وبين ما يجمّلها، ومع هذا فلم ينقل ممّا هو فيه إلى ما هو دونه، بل إلى ما هو أوفى منه.

فأجاب إلى ذلك، وقام وقد استقرّ هذا وتمّ له ما أراده، وشرع في الحال في كتابة سجلّه وإعداد الخلع له ليخلع عليه في غد ذلك اليوم خوفا من نقض ما استقرّ.

وبلغ ذلك كلّه القائد رفق فأنفذ إلى اليازوريّ وقصّ عليه الخبر، وقال له: تلطّف في أمرك كما تريد. فعظم هذا على اليازوريّ وخاف من إبعاده عن خدمة السيّدة، فإنّها كانت أجلّ الخدم وأوفاها وأسناها محلّا وأغناها، فإنّ كلّ من كان في الدولة من وزير وأمير وغيرهما محتاج إليه.

فلمّا كان مع عشاء الآخرة حمل على نفسه وهو محموم، وركب إلى باب الريح (٣)، ودخل وأعلمها مكانه، فأكبرت حضوره في مثل ذلك الوقت مع ما تعلمه من توعّك بدنه. فخرجت وراء المقطع وسألته عن حال مرضه وما الذي دعاه إلى


(١) صاعد بن مسعود الشيخ الأجلّ زين الكفاة صاحب ديوان الشام، اتّعاظ ٢/ ٢٠٣.
(٢) الهور: الانشغال وتبدّد العزيمة وضعف الرأي.
(٣) باب الريح: أحد أبواب القصر الكبير الشرقيّ وهو سكنى الخليفة ومحلّ حرمه، الخطط ٢/ ١٨٠، وقد مرّ أنّ ديوان السيّدة يقع بباب الريح.

<<  <  ج: ص:  >  >>