للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

حتى يلتبس الإمهال بالإهمال على المغرور.

نذكّره بأيّام الله، فإنّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ (١) مِمَّا تَعُدُّونَ [الحجّ: ٤٧]، ونحذّره صفقة من باع آخرته بدنياه، فما أحد سواه مغبون، عسى الله أنيرشده بهذا التذكار، وينفعه وتأخذ هذه النصائح بحجزته عن النار، فإنّي أخاف أن [ي] تردّى فيخرّ من ولّاه والعياذ بالله معه، والموجب لإصدارها ما تلمّحناه من الغفلة المستحكمة على القلوب، ومن [١٦٨ أ] تقاعد الهمم عن القيام بما يجب للربّ على المربوب، ومن أنسهم بهذه الدار وهم يزعجون عنها، وعلمهم بما بين أيديهم من عقبة كئود، وهم لا يتخفّفون منها، ولا سيّما القضاة الذين تحمّلوا أعباء الأمانة على كواهل ضعيفة، وظهروا بصور كبار وهمم نحيفة. فو الله إنّ الأمر لعظيم، وإنّ الخطب لجسيم، ولا أرى أنّ مع ذلك أمنا ولا قرارا، ولا راحة، اللهمّ إلّا رجل نبذ الآخرة ورا (ء) هـ، واتّخذ إلهه هواه (٢)، وقصر همّه وهمّته على حظّ نفسه ودنياه، فغاية مطلبه حبّ الجاه (٣)، والرغبة في قلوب الناس، وتحسين الزيّ والملبس، والركبة والمجلس، غير مستشعر خسّة حاله، ولا ركاكة مقصده. وهذا لا كلام معه فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [الروم: ٥٢]، وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر: ٢٢]، فاتّق الله الذي يراك حين تقوم، واقصر أملك عليه فالمحروم من فضله غير مرحوم. وما أنا وأنتم أيّها النفر إلّا كما قال حبيب العجميّ رضي الله عنه وقد قال له قائل:

ليتنا لم نخلق! - فقال: قد وقعتم فاحتالوا!

وإن خفي عليك بعض هذا الخطر، وشغلتك

الدنيا أن تقضي من معرفته الوطر، فتأمّل قوله صلّى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة»، وقوله صلّى الله عليه وسلم مشفقا: «لا تؤمّرنّ على اثنين ولا تلينّ مال يتيم، لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم»! [المتقارب]:

وما أنا والسير في متلف ... يبرّح بالذّكر الضابط (٤)؟

هيهات! جفّ القلم، ونفذ أمر الله فلا رادّ لما حكم، إيه! ومن هنالك شمّ الناس من فم الصّدّيق رائحة الكبد المشويّ، وقال الفاروق: «ليت أمّ عمر لم تلده! » واستسلم عثمان وقال: «من أغمد سيفه فهو حرّ». وقال عليّ، والخزائن بين يديه مملوءة: «من يشتري منّي سيفي هذا؟ ولو وجدت ما أشتري به رداء ما بعته! » وقطع الخوف نياط عمر بن عبد العزيز فمات خشية العرض. وعلّق بعض السلف في بيته سوطا يؤدّب به نفسه إذا فتر.

أفترى في ذلك سدى، أم وضح أنّا نحن المقرّبون وهم البعداء؟ وهذه أحوال لا تؤخذ من كتاب السلم والإجارة والجنايات، نعم، إنّما تنال بالخضوع والخشوع، وبأن تظمأ وتجوع، وتحمي عينيك الهجوع.

وممّا يعينك على الأمر الذي دعوت إليه، ويزوّدك في مسيرك إلى العرض عليه، أن تجعل لك وقتا تعمّره بالتفكّر والتدبّر، فإنّها تجعلها معدّة لجلاء قلبك فإنّه إن [١٦٨ ب] استحكم صداه (٥) صعب تلا فيه، وأعرض عنه من [هو] بما فيه.

واجعل أكثر همومك الاستعداد للمعاد، والتأهّب لجواب الملك الجواد، فإنّه يقول: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: ٩٢].

ومهما وجدت من همّتك قصورا، أو


(١) حسنة في المخطوط، والآية صحيحة في مسالك الأبصار المخطوط ٥/ ٣٢١.
(٢) اقتباس من سورة الجاثية ٢٣.
(٣) في المخطوط: حبّ الحياة.
(٤) البيت شاهد على المفعول معه، وهو مع ذلك مرفوع السير في المسالك، انظر جمل الزجاجيّ ٣٠٩.
(٥) هكذا في المخطوطين، ولعلّها: صدؤه خفّفت للسجعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>