للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فشعّت النار وأتلفت شيئا كثيرا، وانهزم ظالم وسار إلى بعلبك. وجنّ الليل، وبات الناس خامدين فزعين لما يأتيهم من الغد، وتمكّنت النار تلك الليلة وأحرقت ما شاء الله، وتصاعد لها ألسنة وشرار عظيم وصارت كأنّها فرس يجري.

وأصبح الصبح وقد احترق قصر عاتكة وقصر حجّاج (١) وما هنالك فلم يبق له أثر. هذا والناس طول ليلهم [٢٦ أ] يعارضون الخشب في الأسواق ويضيّقون الدروب ويحفرون الخنادق في الطرق خوفا من دخول الخيل والرجّالة إلى المدينة، وعملوا على أنّهم يقاتلون على أبواب البلد وبات المغاربة فرحين بأخذ البلد.

فلمّا أصبحوا أقبلوا إلى المدينة فخارت قوى كثير من الناس لما داخلهم من الفزع، وتحيّروا.

فعند ما أقبل المغاربة وقع النداء بالنفير، وخرج أهل دمشق فاقتتل الفريقان مليّا.

ثمّ إنّ مشايخ البلد ساروا إلى أبي محمود وهو نازل بالميدان يسألونه الرفق، وقد تبعهم خلق كثير. فلمّا دخلوا عليه لطفوا به وداروه وضرعوا إليه، فقال: ما نزلت لقتالكم، وإنّما نزلت لأردّ هؤلاء الكلاب عنكم- يعني أصحابه- وما أنا ممّن يقاتل رعيّة.

فاستبشر الناس واختلطوا بأصحابه وانتشر قوله في البلد فزال الخوف، ودخل المغاربة إلى المدينة في ما يحتاجون إليه، وولّى أبو محمود الشرطة لرجل يقال له حمزة من المغاربة ولابن كشمرد (٢)

من الإخشيديّة فدخلا البلد في جمع عظيم وطافا بالمزاهر والزّمر (٣) وجلسا في الشرطة، وصارت رجالهما تطوف المدينة في الليل في عدّة وافرة.

هذا وحمّال السلاح ممّن يطلب الفتنة لم يكفّوا فكان الطّوف (٤) يجد دروبا قد ضيّقت لا يمكنه أن يدخل فيها. فشكا صاحب الشرطة ذلك إلى أبي محمود وقال: إنّ القوم على ما كانوا عليه من العصيان، وأشدّهم قوم في باب الصغير (٥).

فقال بعض من حضر عند أبي محمود من أهل دمشق: إنّما كان الأمر والنهي للرعيّة- وأهل هذا البلد قد غلبوا عليه.

وكثر الكلام في هذا فعظم ذلك على أبي محمود واضطرب. فلمّا حضر مشايخ البلد اشتدّ عليهم وهدّدهم وقال: «أنتم مقيمون على العصيان»، فاعتذروا بأنّ سدّ باب الصغير وغيره إنّما كان خشية من أن يدخل منه من لا يعلم به القائد من أصحابه ممّن يطلب الفتن فتثور جهّال الناس. فأقسم أبو محمود لئن لم يفتح هذا الباب ليركبنّ إليه وليحرقنّه وليقتلنّ من فيه. فقال الشيوخ: نعم، نفعل ما يقول القائد.

وأجّلهم ثلاثا فخرجوا من عنده حائرين لا يدرون كيف يسوسون جهّال الناس، ولا ما يعملون في أمر السلطان. وأتوا إلى باب الصغير وقد اجتمع أهل الشرّ، فيهم ابن الماورد (٦)، رأس الشطّار، فبلّغهم الشيوخ ما قال أبو محمود فك [ث] ر اختلافهم. ثمّ إنّهم فتحوا الباب من وقتهم.


- وقد أطنب في وصف الحريق وتعداد الأماكن المحترقة.
(١) عرّف ياقوت قصر حجّاج فقال: محلّة كبيرة في ظاهر باب الجابية، ولم يعرّف قصر عاتكة. وانظر تحفة ذوي الألباب للصفدي ج ١/ ٢٤٦.
(٢) حمزة المغربيّ وابن كشمرد الإخشيدي: هكذا ذكرهما ابن القلانسي أيضا ص ٧.
(٣) عند ابن القلانسي: بالملاهي والزّفن، وهو الرقص.
(٤) الطّوف: العسس.
(٥) باب الصغير أحد أبواب دمشق.
(٦) ابن المارود عند ابن القلانسيّ، والشطار هم عنده الأحداث، أي الغوغاء والرعاع (وانظر دوزي في المادّة).

<<  <  ج: ص:  >  >>