للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

«رزقك الله، تعود إليّ»، فلمّا خلا أخذ الكتاب منه فقرأه وكتب على ظهره: إن البربر متفرّقون لا نظام لهم ولا رأي، وإنّما أتينا من أمر أراد الله أن يكرم به من مضى منّا بدرجة الشهادة. فاطو المراحل وجدّ في السير، فإنّ الأمر لله وليس يسلمك، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله».

وجعل الكتاب في خبز ملّة وجعلها في زاد الرجل. ومضى، فلم يغب عنه إلّا قليلا حتى خرجت الكاهنة [٥٣٣ أ] ناشرة شعرها وهي تقول:

«ويلكم يا بنيّ! ذهب ملككم! وهلاككم فيما يأكله الناس! »، وكرّرت ذلك، فافترقوا يمينا وشمالا يطلبون الرجل فستره الله حتّى قدم على حسّان بالكتاب. ثمّ كتب أيضا كتابا آخر وجعله في قربوس نقر له فيه وأطبق عليه. فلمّا مضى الرسول خرجت الكاهنة ناشرة شعرها تضرب صدرها، وهي تقول: «يا بنيّ، ذهب ملككم في شيء من نبات الأرض، وأراه بين فرجين! » (١)، وكرّرت ذلك. فمضى الرسول إلى حسّان فندب أصحابه وخرج إلى غزوها، فخرجت ناشرة شعرها وقالت: انظروا ماذا ترون في السماء؟

قالوا: نرى شيئا من سحاب أحمر.

قالت: لا وإلهي، ولكنّه رهج (٢) خيل العرب!

ثمّ جمعت ولديها وقالت: إنّي مقتولة وأرى رأسي تركض به براذين مقطوعة أذنابها إلى المشرق، ويوضع بين يدي ملك العرب الأعظم الذي بعث هذا الرجل.

وقالت لخالد: لهذا اليوم أردتك يا خالد. أمّا أنت فسوف تدرك ملكا عظيما عند الملك الأعظم،

وإنّي أوصيك بأخويك هذين خيرا.

فقال لها: إنّي أخاف إن كان ما تقولين حقّا، [أن] لا يستبقيا.

قالت: بلى، ويكون أحدهما عند العرب أعظم شأنا منه اليوم.

قال: فإذا كان هكذا، فارحلي بنا وخلّي له البلاد!

فقالت: أأفرّ وأنا ملكة؟ والملوك لا تفرّ من الموت، فأورث قومي عارا إلى آخر الدهر!

ثمّ قالت: اركبوا واستأمنوا إليه.

فركب خالد ولقي حسّان وأخبره خبرها وأخذ لابنيها أمانا وقدما عليه، فوكّل بهما من يحفظهما، وقدّم خالدا على أعنّة الخيل.

وخرجت الكاهنة ناشرة شعرها ثمّ قالت:

انظروا ما دهمكم، واعملوا لأنفسكم فإنّي مقتولة.

والتحم القتال وانهزمت جيوشها، واتّبعها حسّان حتى قتلها على بئر عرفت بعد ذلك ببئر الكاهنة.

وكان مع حسّان جماعة من البربر من البتر، فولّى عليهم أكبر أولاد الكاهنة وقرّبه. وأسلم كثير من البربر. وعقد لابنها الآخر بعد ما أسلم هو وأخوه. وانصرف إلى القيروان وبنى مسجد جماعتها (٣)، ودوّن الدواوين، ووضع الخراج على عجم إفريقيّة وعلى من أقام معهم على النصرانيّة من البربر، واستقامت له الأمور. ثمّ توجّه إلى [٥٣٣ ب] عبد الملك بن مروان بغنائمه في جمادى الآخرة في سنة ستّ وسبعين- وقيل:

سنة ثمان وسبعين. فلمّا مرّ على برقة جعل على خراجها إبراهيم ابن النصرانيّ. ثمّ مضى فمرّ بعبد العزيز بن مروان وهو بمصر. ثمّ نفذ إلى عبد الملك بن مروان فسرّ عبد الملك بما أورده عليه من فتوحه وغنائمه. ويقال: بل أخذ منه


(١) بين خشبتين في رياض النفوس ١/ ٥١، وفي معالم الإيمان ١/ ٥٨.
(٢) الرّهج: الغبار.
(٣) في المعالم ١/ ٦١: وأمر بتجديده.

<<  <  ج: ص:  >  >>