للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فلمّا حملت أمّ إبراهيم به قالت لأبيه: قد وددت أنّي وضعت ما في بطني غلاما لأحمله أنا وأنت إلى الملك فيتولّى ذبحه: فإنّ الملك أهل لذلك لإحسانه إلينا- وكان ذلك منها مكيدة خدعت بها زوجها فصدّقها. فلمّا حضرت تتمّة ولادتها قالت لزوجها: إنّي قد أشفقت من حملي أن تكون فيه منيّتي، ولست أدري متى يبغتني، وأنا أرغب إليك أن تنطلق إلى الإله الأعظم الذي يعبده الملك فتشفع لي بالسلامة وتعتكف عليه حتى يبلغكخلاصي فترجع- وأرادت بذلك أن تلد وهو غائب فتجعله في سرب (١) تحت الأرض تغيّبه فيه، فإذا رجع زوجها من انعكافه قالت: إنّه قد مات. وكانت عنده أمينة لا يتّهمها.

فانطلق حيث أمرته، واعتكف أربعين يوما في قضاء ما أرادته لطفا من الله بإبراهيم. ثمّ بعثت بالرسول إلى أبيه أنّها تجد الوجع فقام يدعو إلهه حتى بلغه أنها وضعت غلاما به عاهة شديدة و [أنّه] مات حال وضعه فاستحيت أن تطلع الناس على ما به فكتمت أمره حتّى قبرته. فعاد وقد سرّ بخلاصها وصدّقها فيما قالت.

وجعلت أمّ إبراهيم تختلف إلى إبراهيم وتدخل عليه عشاء وتسقيه ما تحتلبه من النساء اللائي ذبح أولادهنّ، حتّى بلغ الفطام، ففصلته عن اللبن، وكان سريع الشباب. فما زال في السرب حتى بلغ ثلاث عشرة سنة. ثم أخرجته أمّه فلم يشعر به أبوه إلّا وهو قاعد في بيته. فلمّا رآه سأل عنه بعد ما همّ أن يبطش به، فقالت أمّه: هذا ابنك الذي ولد ليالي كنت معتكفا فكتمته عنك في سرب تحت الأرض حتّى بلغ هذا المبلغ.

فقال: وما حملك على أن خنتني وخنت نفسك

وخنت الملك وأنزلت بنا من البلاء ما لا قبل لنا به؟

قالت: لا يهمّنّك هذا وأنا ضامنة أن تزداد عند الملك كرامة. وإنّما فعلت الذي فعلت نظرا لك ولي ولابنك ولعامّة الناس. وذلك أنّي أضمرت يوم كتمت هذا الغلام أنّي أخفيه حتى يكون رجلا.

فإن كان عدوّ الملك قدناه إليه وقلنا: دونك عدوّك قد تمكّنت منه فارحم الناس في بقاء أولادهم، فإنّك أفنيت خولك. وإن لم يكن هو بغية الملك وعدوّه، فلم أذبح ابني باطلا؟

فأعجب ذلك زوجها، وقال: كيف لنا أن نعلم أهو عدوّ الملك أو غيره؟ .

فقالت: نحبسه ونعرض عليه دين الملك. فإن أجاب كان رجلا من الناس ليس عليه قتل. وإن عصانا ولم يدخل في ملّتنا أسلمناه إلى القتل.

فقال: هذا هو الرأي!

وألقى الله سبحانه في قلبه عند ذلك محبّة إبراهيم وزيّنه في عينه فأحبّه حبّا شديدا ونفس به عن القتل واشتدّ بكاؤه رحمة لإبراهيم. وكانت أمّ إبراهيم واثقة بأنّ ابنها إن كان عدوّ القوم فليس أحد يطيق قتله، ورأت أنّه متى نصر ابنها عليهم نجت هي وأهلها. فشجّعها ما ألقى الله في قلبها من ذلك على معصية نمروذ. وقد كان نمروذ يخبر [٣ أ] الناس قبل مولد إبراهيم أنه سيأتي رجل يغلبه ويرغب عن ملّته ويخلع دينه. وكان هذا من قول نمروذ سببا في قوّة أمّ إبراهيم على ارتكاب معصية نمروذ ومخالفة قومها.

وكان أبو إبراهيم من شدّة ما ألقاه الله سبحانه في قلبه من محبّة إبراهيم يبالغ في كتمانه ويوصي بذلك أمّه ويقول: ارفقي به ولا تعرّضيه لشيء من أمر الملك فإنّه غلام حدث السنّ لم يجتمع له رأيه


(١) السرب: الحفير والنفق.

<<  <  ج: ص:  >  >>