للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أقرب الوسائل المودّة وأبعد النسب البغضاء.

وانظر أهل الجزالة والفضل والعقل منهم فشرّفهم وأوطئ الرجال أعقابهم فإنّه لا يزال لأمر القوم نظام ما كانت لهم أعلام. وأجزل لهم العطاء ووسّع عليهم في الأرزاق، فإنّ أكثر الناس مؤونة أعظمهم مروءة. ثمّ ليكن معروفك لغيرهم بعدهم، فإنّ الصلة تديم الألفة وصنهم ينبلوا ولا تبتذلهم فيخلقوا. واعلم أنّ رضا الناس غاية لا تدرك، فتحبّب إليهم بالإحسان جهدك، وتثبّت فيما يرد من أمورهم عليك ووكّل همومك بأمورك وتفقّد الصغير بفقدك الكبير. وخذ أهبة الأمر قبل حلوله، فإنّ ثمرة التواني الإضاعة. وكن عند رأس كلّ أمر لا عند ذنبه، فإنّ المستقبل لأمره سابق والمستدبر مسبوق. وولّ أمورك الفاضل يكن مستعليا، ولا تولّ المفضول فإنّه مزر باختيارك.

وانظر الأموال فإنّها عدّة الملوك وبها السلطان ونظام التدبير. فوفّرها بولاية أهل العفاف عنها والحيطة عليها، ولا تبتذلها إلّا في إصلاح أمور السلطان والرعيّة، وثواب أهل الطاعة والنصيحة.

وأحسن إلى نصحائك واستدم مودّتهم ومحبّتهم بجميل التعهّد لهم والتفقّد لأمورهم. ولا تعط عطيّة تبطر الخاصّ وتؤسف العامّ، واجعل لكلّ إليك حاجة، واجعل لهم من فضلك مادّة. واسمع من أهل التجارب، ولا تردّنّ على ذوي الرأي.

وعوّد نفسك الصبر على التعب في إصلاح الرعيّة، وترك الهوينا والدّعة. واعلم أنّ ذهاب السلطان يؤتى من ثلاثة أمور: قلّة الحزم، وضعف العزم، وفقد صالحي الأعوان، وأنّ ثباته بأربع خلال:

المعرفة، وحسن التخيّر، وإمضاء الاختيار، وتنكّب أهل الحرص، فإنّ الحريص يبيعك باليسير من حظّه، وشره الوزراء أضرّ الأعداء. ومن خانك كذبك ومن كذبك غشّك.

واعلم أنّ مادّة الرأي المشاورة فاختر [١١٠ ب] لمشاورتك أهل اللبّ والرأي والصدق وكتمان السرّ. وكافئ بالحسنة وتجاوز عن السيّئة ما لم يكن في ذلك ثلم دين ولا وهن سلطان. ودع الانتقام فإنّه أسوأ أفعال القادر. وقد استغنى عن الحقد من عظم عن المجازاة وعاقب بقدر الذنب.

واعف عن الخطإ وأقل العثرات من أهل الحرمة والبلاء.

وعليك ببلاد نعمتك ومواليك من أهل خراسان وغيرها من الآفاق، فإنّهم أنصح الناس وأشدّهم سعيا في بقاء دولتك، فإنّما عزّهم بعزّك.

وتجنّب دقيق أخلاق أهل العراق، فإنّهم نشئوا على الخبّ ومذموم الأخلاق. وإذا اطّلعت من أحد من خاصّتك وأهل نعمتك على هوى مفسد لنصيحتك فلا تقله عثرة ولا ترع له حرمة ودع الاغترار به، فإنّك إن اغتررت به كنت كمدخل الحيّة دون شعاره، إن شاء الله.

فلمّا قرأ الكتاب، قال: أفهمت يا بنيّ؟

قال: نعم.

قال: فاتّخذه لك إماما ومثالا.

ثم قال: استودعك الله يا بنيّ، وأنشد [الكامل]:

المرء يأمل أن يعي ... ش، وطول عيش ما يضرّه

تبلى بشاشته ويب ... قى بعد طول العيش مرّه

وتخونه الأيّام ح ... تّى لا يرى شيئا يسرّه

كم شامت بي إن هل ... كت وقائل: لله درّه!

ثم ودّع المهديّ وقال: يا أبا عبد الله، إنّي ولدت في ذي الحجّة ووليت الخلافة في ذي

<<  <  ج: ص:  >  >>