ليدلك عينيه من البكاء إذ قيل: «هذا جعفر بن يحيى قد أقبل». فأخذ منديلا فمسح عينيه من البكاء وجمع ثيابه وقام إلى فرشه فقعد عليها متربّعا، ثم قال: «ليدخل! » فدخل. فقمت عن المجلس وخفت أن يشكوني إليه فألقى منه ما أكره. فأقبل عليه بوجهه وحديثه حتى أضحكه وضحك إليه. فلمّا همّ بالحركة دعا بدابّته وأمر غلمانه فسعوا بين يديه، ثم سأل عنّي فجئت فقال:
خذ عليّ ما بقي من حزبي!
فقلت: أيّها الأمير، أطال الله [١٢٧ أ] بقاءك، خفت أن تشكوني إلى جعفر بن يحيى، ولو فعلت ذلك لتنكّر لي.
فقال: أتراني يا أبا محمد كنت أطلع الرشيد على هذه؟ فكيف بجعفر بن يحيى حتّى أطلعه أنّي أحتاج إلى أدب؟ إذن يغفر الله لك بعد ظنّك ووجيب قلبك! خذ في أمرك، فقد خطر ببالك ما لا تراه أبدا، ولو عدت في كلّ يوم مائة مرّة.
وقال عبد الله بن محمد التميميّ: أراد الرشيد سفرا. فأمر الناس أن يتأهّبوا لذلك، وأعلمهم أنّه خارج بعد الأسبوع. فمضى الأسبوع ولم يخرج.
فاجتمعوا إلى المأمون وسألوه أن يستعلم ذلك.
ولم يكن الرشيد يعلم أنّ المأمون يقول الشعر.
فكتب إليه المأمون [المنسرح]:
يا خير من حنّت المطيّ به ... ومن تقدّى بسرجه فرس (١)
هل غاية في المسير نعرفها ... أم أمرنا في المسير ملتبس؟
ما علم هذا إلّا إلى ملك ... من نوره في الظلام نقتبس
إن سرت سار الرشاد متّبعا ... وإن تقف فالرشاد محتبس
فقرأها الرشيد وسرّ بها ووقّع فيها: يا بنيّ، ما أنت والشعر؟ فالشعر أرفع حالات الدنيء وأقلّ حالات السريّ. والمسير إلى ثلاث إن شاء الله.
*** وقال صالح بن الفضل بن عبيد الله الكاتب:
أخبرني أبي قال: لمّا خرج المأمون من خراسان شيّعه حميد الطوسيّ، فسار معه فراسخ. فالتفت إليه المأمون فقال: ارجع أبا غانم.
فقال: يا أمير المؤمنين، أتنسّم من وجهك، وأتشرّق بطلعتك، وآخذ بحظّي من دولتك.
فسار معه قليلا ثمّ التفت إليه فقال: يا أبا غانم [الكامل]:
عجب لقلب متيّم، أحبابه ... ساروا وخلّف، كيف لا يتصدّع؟
ارجع فحسبك ما تبعت ركابنا ... إنّ المشيّع لا محالة يرجع
آنس- فديتك- وحشتي بكتابكم ... إنّي إلى أخباركم متطلّع
*** وقال النضر بن شميل: دخلت على المأمون فقال لي: كيف أصبحت يا نضر؟
قلت: بخير يا أمير المؤمنين.
قال: أتدري ما الإرجاء؟
قلت: دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم وينقص من دينهم.
قال لي: صدقت.
ثمّ قال: تدري ما قلت في صبيحة يومي هذا؟
قلت: أنّى لي بعلم الغيب؟
قال: أصبحت وأنا أقول [المنسرح]:
أصبح ديني الذي أدين به ... ولست منه الغداة معتذرا
(١) تقدّى الفرس: أسرع ولزم الطريق.