إلى بغداد، فسمع بها من الشيخ شهاب الدين أبي حفص عمر بن محمد السهرورديّ، وأبي علي الحسن بن إسحاق الجواليقيّ، وأبي حفص عمر بن كرم.
وسمع بمكّة من أبي العبّاس أحمد بن عليّ القسطلانيّ، وبحرّان من أبي العبّاس أحمد بن سلامة النجّار. وبحلب من أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان. وبالموصل من أبي حفص عمر بن أبي المحاسن بن معالي الموصليّ.
وجمع له أبو العبّاس أحمد بن محمد الظاهريّ معجم شيوخه في عشرة أجزاء. وتفقّه على مذهب الإمام أحمد حتّى صار أوحد أهل زمانه في معرفة فقه الحنابلة ومسائل الخلاف.
وقدم مصر بعد سنة أربعين وستّمائة واستوطنها ورأس بها في مذهب الإمام أحمد وصار شيخ الإقليم، وتولّى تدريس المدرسة الصالحيّة النجميّة، إلى أن اقتضى رأي الملك الظاهر ركن الدين بيبرس إقامة قضاة أربعة. فتقدّم إلى قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهّاب ابن بنت الأعزّ أن يستنيب عنه في الأحكام مدرّسي المدرسة الصالحيّة. فجلس صدر الدين سليمان بن عبد الحقّ الحنفيّ، وشرف الدين عمر السبكيّ المالكيّ، وشمس الدين محمد بن إبراهيم الحنبلي للحكم في أواخر ذي القعدة سنة ستّين وستّمائة.
فاستمرّ الأمر على ذلك إلى تاسع عشر ذي الحجّة سنة ثلاث وستّين. فاستدعى السلطان القضاة الثلاثة وقرّرهم قضاة القضاة بديار مصر، وفوّض لهم أن يولّوا في سائر أعمال الأمصار نوّابا، وخلع عليهم وكتب لهم التقاليد، فصار من حينئذ بديار مصر أربع [ة] قضاة. وكان الشيخ شمس الدين هذا أوّل من ولي من الحنابلة قضاء القضاة بالقاهرة. وأضيف إليه مشيخة الخانقاه الصلاحيّة سعيد السعداء. فباشر ذلك إلى أن كانت سنة سبعين وستّمائة، [ف] امتحن محنة كبيرة:
وذلك أنّ القضاة الثلاثة كانت تستنيب في أعمال مصر كما هو الحال اليوم في قاضي القضاة الشافعيّ، فاستناب عنه بالمحلّة أخا تقيّ الدين شبيب الحرّانيّ، ثمّ عزله. فحنق أخوه شبيب وكتب قصّة للملك الظاهر تتضمّن أنّ قاضي القضاة شمس الدين الحنبليّ عنده من ودائع للتّجار من أهل بغداد وحرّان والشام وغيرهم جملة كثيرة، وقد مات [٥١ ب] أهلها واستولى عليها.
فاستدعاه السلطان وذكر له ذلك، فأنكر. فألزمه اليمين، فحلف، وتأوّل في يمينه. فأمر السلطان عدّة من خواصّه، فنزلوا إلى داره ودخلوها مهاجمة على حين غفلة، فوجدوا فيها كثيرا ممّا اتّهم به وحلف عليه، فحمل ذلك وكشف عنه، فوجد فيه من قد مات أربابه، وفيه من أربابه في الحياة. فسلّم لمن هو حيّ ماله بعد ما أخذت منه الزكاة على سنين عديدة. وغضب السلطان على القاضي واعتقله وأوقع الحوطة على داره.
وتوجّه إلى البلاد الشاميّة، فتسلّط شبيب عليه وادّعى أنه حشويّ وأنّه يقدح في الدولة، وكتب بذلك محضرا كتب فيه جماعة وأوقف عليه الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار نائب السلطنة. فعقد له مجلس في يوم الاثنين حادي عشر شعبان سنة سبعين، وحضر الشهود. فارتاب منهم النائب وتبيّن له من شبيب كثرة التحامل على القاضي والمبالغة في الإساءة إليه والقدح عليه. فنكّل بالشهود وجرّس (١) بعضهم واعتقل شبيبا وأوقع الحوطة على موجوده. وأعاد القاضي إلى اعتقاله بقلعة الجبل.
(١) جرّس به: ندّد به وطوّف به في المدينة وفي عنقه جرس (دوزي).