للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أصلّي إليها وقد انحرفت لي عن مكان فسيح محفوف من جانبيه بأشجار، وثلاث جوار عليهنّ ملابس ملوّنة، وبعضهنّ تتبع بعضا، وفي يد الثالثة منهنّ إناء. فعند ما وصلن إليّ وقفت الأولى بين يديّ وتناولت الإناء وأطعمتني منه. فذهب ما كنت أجده من الجوع وغيره. ثمّ أصبحت ومضيت إلى الدكّان على عادتي. فأخذ المعلّم يسألني عن سبب غيبتي، فأخبرته بما خطر لي عند سماع الحكاية من الشيخ وبما جرى لي. فقبض على يدي ومضينا إلى الشيخ فأخبرته القصّة. فبكى وقال: كم بين [من] يطعمه الناس وبين من يطعمه الله تعالى!

ثمّ عدت [٥٩ أ] إلى الدكّان، وإذا بشخص يبيع أرزا بلبن فاشترى منه المعلّم وغصّبني على الأكل، فأكلت وذهب ما كنت أجده من الاستغناء عن الطعام، وعدت إلى حالتي المعهودة لكوني لم أجد مربّيا يربّيني. ثمّ لزمت الخير بعدها.

وذكر أنّ شيخه أبا إسحاق إبراهيم بن طريف- وكان يبيع الفخار- سفّره مرّة في حاجة عرضت له ولم يزوّده، وكانت طريقا منقطعة بعيدة، فلمّا وقعت منها في شعراء عظيمة خطر لي أن قلت:

ليت شعري، علام (١) أنكلني الشيخ في مثل هذا الطريق؟

فأنا في ذلك إذ سمعت بحسّ على الأوراق اليابسة في الطريق من ورائي، فالتفتّ فإذا الشيخ يناولني رغيفا، فأخذته وأكلت منه. فلمّا عدت من سفرتي قال لي، يشكرني على قضاء الحاجة: ما قصّرت، ولكن كان قلبك قلبا نحسا.

واتّفق أنّه انبسط معي يوما بعد ذلك ووجدت سبيلا لسؤاله عن الواقعة، فقلت له: أنت تعلم

الذي أريد [أن] أسألك عنه، فلا حاجة إلى ذكره.

فقال لي: يا محمّد، وقع لك أنّني منحصر في الدكّان- يعني دكّانه التي يبيع بها الفخّار- فسمعتها وسكتّ.

وقال الإمام علم الدين أبو الحسن عليّ بن محمد السخاوي: كان الشيخ أجذم مكفوفا، فدخلت عليه يوما وإذا الخادم الذي له يشير إليّ بيده، بحيث لا يسمع الشيخ، أن لا أدخل. فبينا نحن كذلك [إذ] صاح الشيخ عليه وقال: دعه! - فدخلت وقبّلت يده وانبسط معي، وقال: ما أعجب الناس! جاءني رجل وقال لي: لعلّك أن تعطيني الختم الذي تختم به على الدراهم حتى أختم به على دراهمي تبرّكا؟

فقلت له: ما أعجبك! من تكون هذه يديه (٢) يختم بماذا؟

وقال لي: احضر (٣) على الكيمياء.- ثمّ قال لي عقيب هذا الكلام: من أنكر أنّي أنفق من القدرة فقد جهل، (قال السخاوي): وكنت إذ ذاك أقرأ على الشيخ الشاطبيّ رحمه الله. فقال لي يوما وقد رأى ميلي إلى ملازمة الشيخ القرشيّ: يا أبا الحسن، أنت رجل ربّ عيال وأولاد وقد علمت فضيلة التسبّب ولم تجهل فرق ما بين العالم والعابد- وفاوضني في ذلك. فلمّا أصبحت من الغد مضيت إلى مصر أزور الشيخ ومعي صاحب لي، وتحدّثنا فيما حدّثني به الشيخ الشاطبيّ وتفاوضنا فيه مسافة طريقنا من [٥٩ ب] القاهرة إلى مصر، فلمّا دخلت على الشيخ أخذت يده أقبّلها على جاري العادة. فرمى يده عن يدي وقال: أنت الفقيه العالم! - قول مغضب- يا فقيه الهمّ، ما سمعت ما حكي عن سهل أنّه وقف على بقعة ما


(١) في المخطوط: على ما.
(٢) يداه مجذومتان كما سيأتي.
(٣) الكلمة مطموسة، والقراءة تخمين ولعلّها: أحظر.

<<  <  ج: ص:  >  >>