للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ياقوت أن يقول للخادم: افتح صندوق الآثار وأخرج القصيدة من حقّ العنبر وائت بها.

فلمّا جاءت وضعها الفارقيّ على عينيه وقرئت عليه، وكان الشفاء. فسمّيت من حينئذ «البردة»، واشتهرت بديار مصر، والشام، والمغرب، والحجاز، واليمن، شهرة لا مزيد عليها. وزادوا في تعظيمها حتى عملوها تميمة تعلّق على الرءوس، وزعموا فيها مزاعم كثيرة من أنواع البركة. وهم على ذلك إلى يومنا هذا.

وكان البوصيريّ شيخا مختصر الجسم، وفيه كرم، وله شعر فائق. قال فيه فتح الدين محمّد ابن سيّد الناس: هو أحسن شعرا من الجزّار والورّاق (١).

وكان يعاني صناعة الكتابة الديوانيّة، ويتصرّف في المباشرات، وباشر في الشرقيّة ببلبيس، ورمى المباشرين بالأوابد.

ومات في يوم [ ... ] سنة خمس وتسعين وستّمائة بالمارستان المنصوريّ من القاهرة.

ومن شعره [الطويل]:

تجنّب أحاديث الحسود فواجب ... تجنّبه فيما يقول ويفعل (٢)

وكلّ حسود ما عدته ملامة ... وكلّ لئيم ما عليه معوّل

متى قال عنّي السوء عندك إنّه ... كذاك يقول السوء عنك وينقل

وقال في المركب الذي فوق الإمام الشافعيّ رحمه الله عليه [الطويل]:

بقبّة قبر الشافعيّ سفينة ... رست من بناء محكم فوق جلمود (٣)

ومذ غاض طوفان العلوم بموته ... استوى الفلك من ذاك الضريح على الجودي

وذكره الشهاب أحمد بن فضل الله في كتاب مسالك الأبصار (٤)، وقال: حكى لي شيخنا شهاب الدين أبو الثناء محمود رحمه الله قال: كان البوصيريّ على غزارة [٢٥١ أ] فضله ممقوتا لإطلاق لسانه في الناس بكلّ قبيح، وذكره لهم بالسوء في مجالس الأمراء والوزراء. (قال):

وكنت أشتهي أن أراه وأتمنّى قدوم مصر للقياه.

فلمّا نقلت إلى مصر في الأيّام الأشرفيّة، سألت عنه في الطريق قبل دخول البلد، فقيل لي أنّه مات. وكان قد مرض مرضة طويلة أغمي عليه فيها، فشيع عليه أنّه مات وطارت هذه الشائعة واستقرّت في كثير من النفوس. (قال): فأسفت على فوات لقائه، ثمّ لم تمض عليّ إلّا مدّة حتّى طرق عليّ الباب، فقلت: من أنت؟

فقال: البوصيريّ.

فشرعت أردّد السؤال لأستثبته إلى أن قال:

كأنّك قيل لك إنّي متّ؟

فقلت: قد قالوا هذا.

فأنشدني بديها [الخفيف]:

عاش [من] بعد موته البوصيري ... وحياة الكلاب موت الحمير (٥)

عاش قوم مذ قيل إنّي قد م ... تّ فماتوا قبلي بوخز الصدور


(١) الجزّار: يحيى بن عبد العظيم (ت ٦٧٩)، والورّاق: عمر بن محمد بن الحسن (ت ٦٩٥) وعثمان بن سعيد اب لؤلؤ (ت ٦٨٥) الآتي ترجم لهم ابن شاكر في الفوات: ٤/ ٢٧٧ و ٣/ ١٤٠ و ٢/ ٤٤٠ وكانت بينهم مساجلات.
(٢) ديوان البوصيري ٢٣١.
(٣) الديوان ٢٣١.
(٤) مسالك الأبصار ١٨/ ٢٤٧، والزيادة منها.
(٥) الديوان ٢٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>