فلمّا ثار الأمير بنطاش بمصر على الناصريّ، وسجنه بالإسكندريّة، وخرج بابن الأشرف لمحاربة برقوق، وقد خرج من سجن الكرك وجمع الناس، توجّه البدر معه على العادة، وشهد وقعة شقحب، وانهزم فيمن انهزم مع بنطاش إلى دمشق. وقبض الظاهر برقوق على الصالح وعاد إلى مصر واستولى على المملكة ثانيا فولّى علاء الدين علي بن عيسى الكركيّ كتابة السرّ عوضا عن البدر ابن فضل الله.
فثقل على البدر مقامه بدمشق ورأى انحلال أمر بنطاش، فكتب إلى السلطان مطالعة افتتحها بقوله [البسيط]:
[١٧١ ب] يقبّل الأرض عبد بعد خدمتكم ... قد مسّه ضرر ما مثله ضرر
حصر وحبس وترسيم أقام به ... وفرقة الأهل والأولاد، والفكر
لكنّه والورى مستبشرون بكم ... يرجو بكم فرجا يأتي، وينتظر
والشغل يقضى لأنّ الناس قد ندموا ... إذ عاينوا الجور من منطاش ينتشر
جوزوا كما فرّطوا في حقّكم ورأوا ... ظلما عظيما به الأكباد تنفطر
والله إن جاءهم من بابكم أحد ... قاموا لكم معه بالروح وانتصروا
الله ينصركم طول المدى أبدا ... يا من زمانهم من دهرنا غرر
وسأل الإذن في الحضور فأجيب إليه. وما زال يتحيّل حتى خلص من يد منطاش وفرّ إلى مصر، فقدم، ومعه أخوه حمزة والجمال محمود القيصريّ ناظر الجيش، والتاج عبد الرحيم ابن أبي شاكر، ومحمد ابن الصاحب الموقّع، في ثاني عشر رجب سنة ثنتين وتسعين. فلزم داره من غير أن يجتمع بالسلطان، إلى أن توجّه السلطان إلى دمشق، فأخرجه في ركابه، فسار بغير وظيفة.
فلمّا اشتدّ مرض الكركيّ، استدعاه السلطان وأعاده إلى كتابة السرّ في أخريات شوّال سنة ثلاث وتسعين [وسبعمائة]، فباشرها مرّة ثالثة على عادته. وقدم في ركاب السلطان إلى القاهرة، واستمرّ إلى أن توجّه في خدمة السلطان إلى الشام. فمات بدمشق يوم الثلاثاء العشرين من شوّال سنة ستّ وتسعين وسبعمائة، ودفن بسفح قاسيون في تربتهم عند جدّه وأهله، ولم يبلغ الخمسين سنة. ومات بعده أخوه حمزة في أوّل المحرّم سنة سبع وتسعين.
وكان من عظماء الدنيا مهابة وحرمة، وحشمة ورئاسة، ونفوذ كلمة، وكثرة ترف وسيادة.
وبسيادة بيته يضرب المثل. وبهم كان تجمّل الممالك والدّول.
ولم ينجب من أولاده أحد، فدرس بيته وانقطع بمصر والشام.
ومن شعره ما كتبه عنوانا لجواب السلطان الملك الظاهر عن كتاب الطاغية تيمورلنك الوارد في سنة ستّ وتسعين وسبعمائة وعنوانه [الطويل]:
سلام، وإهداء السلام من البعد ... دليل على حفظ المودّة والعهد
وضمّنه كثيرا من الإرعاد والإبراق، والتهديد والتهويل، فافتتح البدر العنوان بقوله [الطويل]:
طويل حياة المرء كاليوم في العدّ ... فخيرته أن لا يزيد على الحدّ
ولا بدّ من نقص لكلّ زيادة ... لأنّ شديد البطش يقتصّ للعبد (١)
(١) قراءة العجز ظنّيّة.