للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

مشهورة، وحفظ كثيرا من نوب صفيّ الدين أبي الفضائل عبد المؤمن بن يوسف بن فاخر الأرمويّ، الذي ألّف أشتات الضروب وصنّف النوب.

وانخرط في سلك الندماء وأهل المحاضرات، وملح وندر، [وحكى الحكايات والخبر] (١)، وكثرت ملحه ونوادره، وخدم ملوك ماردين، وحظي عند الملك الصالح شمس الدين وراج لديه.

فسمع به السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون فاستدعاه، وأقبل عليه غاية الإقبال [حتى تمكّن منه.] وكان له منه مكانة لم يبلغها أحد من أمثاله. وأمره بملازمة الجواري وتعليمهنّ، فكان يتردّد إلى باب الستارة في كلّ يوم، ويخرج إليه الجواري فيعلّمهنّ ويلقي عليهنّ الأصوات حتى تخرّجبه غالب الجواري.

وكان مجيدا في الغناء، متقنا لسائره الخفيف والثقيل منه، غاية في ضرب الجنك العجميّ (٢)، وتأليف الأنغام عليه لا [٢٤٩ ب] يكاد يثبت سامعه لشدّة الطرب.

وكان يقيم بمصر المدّة الطويلة، ثمّ يسأل في العود إلى ماردين، فيؤذن له، فلا يكاد يصل إلى ماردين ويستقرّ بها حتى يجهّز السلطان في طلبه ويحثّ في سرعة عوده. فإذا وصل ضاعف له الإكرام وعومل بأكثر ممّا يعهد، وحصل له بهذا

مال جزيل ونعم كثيرة جدّا. ورتّب له السلطان رواتب سنيّة تزيد على عادة مثله.

قال القاضي شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله بعد ما ذكر ما تقدّم ذكره: وحضرت مجلس السلطان مرّة، وعنده الأمير موسى بن مهنّا، وكتيلة هذا يضرب بالجنك بين يديه. فرأيت موسى على سكونه العظيم ووقاره يميل يمنة ويسرة، وكان كتيلة ذلك اليوم كلّه يردّد صوتا صنعه، والصوت [البسيط]

يا دار عزّة من للواله الباكي ... بنظرة يتملّى من محيّاك

ما هبّ من أيمن الوادي نسيم صبا ... إلّا وكان الهوى العذريّ يمناك

تحمّلي واجملي يا نوق واصطبري ... على المسير فهذا من سجاياك

فلم يبق أحد من علماء الدار وأعيان الأمراء حتّى هزّه الطرب، ولولا مهابة السلطان لرقصوا، فلمّا فرغ ممّا هو فيه، أثنى السلطان عليه وقال لموسى بن مهنّا: كيف رأيت؟

فقال: والله ظننت أنّه يجذبني إليه، ولو لم أملك نفسي لوقعت عليه.

وأمر له السلطان بألف دينار مصريّة ليتّجر بها وكتب توقيع مسامحة بما يجب عليها من الموجبات الديوانيّة في السفر دائما، صادرا وواردا. ومضى يوم عجيب لم ير مثله.

(قال): ودخلت على السلطان يوما آخر، وهو عنده، وقد أخذ في صوت صنعه، والصوت [الطويل]:

سلام على ليلى، وليلى بعيدة ... ولكنّها طيف إليّ قريب [٢٥٠ أ]


(١) الزيادات من مسالك الأبصار ١٠/ ٣٣٢.
(٢) الجنك والجنك: آلة كالعود والضارب بها جنكيّ (دوزي، تاج العروس، أدّي شير)، ولا نعرف شكلها بالتدقيق. وقد وصفها الشاعر نور الدين الإسعردي (ت ٦٥٦) فقال [البسيط]:
لبنت شعبان جنك حين تنطقه ... يغدو بأصناف ألحان الورى هازي
لا غرو أن صاد ألباب الرجال لها ... أما تراه يحاكي مخلب البازي؟
ديوان الصبابة ١٩٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>