للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ونثر وترسّل الترسّل البليغ. وكتب الخطّ المليح إلى الغاية. وعرف مصطلح الديوان المعرفة التامّة بحيث إنّه إذا أعطي كتابا إلى ملك من ملوك الأطراف كالهند واليمن والكرج والغرب، وغير ذلك، أخذ القلم وكتب في الحال من غير فكر ولا رويّة ولا مراجعة كتاب القائد ونعوته عن ظهر قلبه، وأنشأ الكتاب في المعنى المقصود، وأحسن إنشاء، فكتب من التقاليد والتواقيع والمناشير والمكاتبات ما لا يدخل تحت حصر على هذه الوتيرة من غير أن يراجع منشوره.

وما زال من أعيان كتّاب الإنشاء بقلعة الجبل إلى أن توفّي بهاء الدين أبو بكر ابن غانم، فرسم له السلطان بأن يتوجّه إلى طرابلس مكان صاحب ديوان الإنشاء. فسار إليها من القاهرة في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة فرأس هناك وأحسن بالناس وسار سيرة مرضيّة، إلى أن تولّى الأمير بيدمر البدري النيابة في أوائل سنة سبع وأربعين فعزل من كتابة سرّ طرابلس.

وأقام بها إلى أن رسم له بالخروج، فحضر إلى دمشق في أواخر السنة وأقام بها مدّة. ثمّ عاد إلى القاهرة.

ثمّ أخرج إلى دمشق موقّع دست فسار إليها في رجب سنة إحدى وخمسين [وسبعمائة].

ومن نثره في وصف يوم ماطر: وهو مطر قامت له السماء، وعامت الأرض لمّا كثر منه الماء، ودامت به من الله الرحمة والنعماء، وغابت تحتغمامه عين الشمس، فما لها إشارة ولا إيماء.

وتوالى كرمه إلى الرياض فله عند كلّ ساق يد بيضاء. إلّا أنّ الأرض تغيّر حالها، واستقرّ في بطون الأرض ما أرسلته جبالها، فتفرّق في الأرض غدرانها، وروت حديثه السيول عن الحيا، عن البحر، عن جود مولانا، كأنّما الأرض به سقيت فشفيت من بؤسها، لا بل كأنّما أبو حفص هذه الأمّة استسقى الله بعبّاسها، وأضحت فاكهة الشتاء كوجه المحبوب غير مملولة، وأمنت سحبه القلوب وإن كانت [٣٧ أ] سيوف بروقها مسلولة، وخمدت فيها كلّ نار إلّا نار قراك، وغابت فيه الشمس، ونحن نراك، وما أطلق المملوك عنان القلم في هذه الكلم إلّا لما قيّد نفسه محبّة في ذراك.

ومن شعره في مدح العلاء ابن الأثير [الكامل]:

يا من به جمع الألوف مفرّق ... ومفرّق العلياء فيه مجمّع

يا من إذا وضع المكارم في الورى ... أضحى له عمل زكيّ يرفع

يا من يعيد مآثرا ومكارما ... ما عدّهنّ عيينة والأقرع

أبوابه محجوجة وجبينه ... بدر وبطن الكفّ منه ينبع (١)

وقال ملغزا في كتاب [السريع]:

يا مبدعا في النظم والنثر ... وفاضلا في علمه يثري

ومودعا مهرقه كلّ ما ... يزري بحسن الدرّ والتبر (٢)

إن أحكمت ألفاظه أصبحت ... قواطعا تربي على البتر

ما صامت ينطق إفضاله ... وكاتم للسرّ في الصدر

تصلحه الراحة لكنّه ... يتعب في الطيّ وفي النشر

قد أشبه البيض لكنّه ... يحتاج يا ذا الفضل للسمر

تفرّق الليل بأرجائه ... كأنّه وصل على هجر

يسير عن أوطانه دائما ... للنفع في البرّ والبحر


(١) محجوجة: يحجّ إليها.
(٢) المهرق: القرطاس.

<<  <  ج: ص:  >  >>