الموفّق أن كتب إلى أحمد بن طولون في حمل مال يستعين به- هذا ومصر ليست من عمل الموفّق، وإنّما هي من عمل المفوّض وخليفته موسى بن بغا- إلّا أنّه شكا في كتابه إلى ابن طولون شدّة حاجته إلى المال فيما هو بسبيله. وبعث بحمل المال من مصر نحريرا خادم المتوكّل. فورد في عقب كتاب الموفّق كتاب أمير المؤمنين المعتمد يأمر فيه ابن طولون بحمل المال إليه على رسمه مع ما جرى الرسم بحمله مع المال في كلّ سنة من طراز تنيس ودمياط والقيس والبهنسا، ومن الرقيق والخيل والشمع وغيره. وكتب سرّا: إنّ الموفّق لم ينفذ نحريرا إليك إلّا عينا عليك ليستقصي أخبارك، وقد كتب إلى عدّة من أصحابك، فاحترس منه واحمل المال إلينا [لئلّا] تقوى يد الموفّق به، وعجّل إنفاذه.
فاحترس ابن طولون على نحرير ومنعه من الركوب، ولم يمكّنه من الخروج من داره إلى أن أخرجه من مصر، وتلطّف حتّى أخذ منه ما معه من الكتب، وسيّر معه ألف ألف دينار، ومائتي ألف دينار، مع ما جرى به الرسم في الحمل. وسار معه حتّى أوصله إلى العريش وسلّمه بما معه إلى ماجور صاحب دمشق. وأشهد عليه بذلك العدول الذين أخرجهم معه من مصر، وعاد.
فنظر في الكتب، فإذا هي لجماعة من قوّاده يضرّبهم الموفّق عليه ويستميلهم عنه إليه. فقبض على أرباب الكتب وعاقبهم حتّى هلكوا. فلمّا وصل المال إلى الموفّق استقلّه، وكتب إلى ابن طولون يقول إنّ الحساب يوجب أضعاف هذا المال- وبسط لسانه، والتمس فيمن معه من يقلّده مصر عوضا عن ابن طولون. فلم يوافقه أحد على ولاية مصر لكثرة مداراة ابن طولون وحسن تلطّفه بوجوه أهل الدولة.
ولمّا وقف على كتاب الموفّق قال: وأيّ حساب بيني وبينه؟ أو حال توجب مكاتبتي بهذا؟ - وكتب إليه (١): وصل كتاب الأمير أيّده الله وفهمته. وكان- أسعده الله- حقيقا بحسن التخيّر له في اختياره مثلي، وتصييره إيّاي عمدته التي يعتمد عليها، وسيفه الذي يصول به، وسنانه الذي يتّقي الأعداء بحدّه، لأني دأبت في ذلك، وجعلته وكدي، واحتملت الكلف العظام، والمؤن الثقال لاستخدام كلّ موصوف بشجاعة واستدعاء كلّ منعوت بغناء وكفاية، بالتوسعة عليهم وتواصل الصلات والمعاون لهم، صيانة لهذه الدولة، وذبّا عنها، وحسما لأطماع الشانئين لها، والمنحرفين عنها. فكان من هذه سبيله في الموالاة ومحلّه في المصانعة حريّا أن يعرف له حقّه، ويوفّر من الإعظام قدره، ومن كلّ حال جليلة حظّه ومنزلته.
فعوملت بضدّ ذلك من المطالبة بعمل ما أمر به، وجفاء في المخاطبة، بغير حال توجب ذلك. ثم أكلّف على الطاعة جعلا، وألزم في المناصحة ثمنا! وعهدي بمن استدعى ما استدعاه الأمير من طاعته أن يستدعيه بالبرّ والإعطاء والإرغاب والإرضاء والإكرام، لا أن يكلّف ويحمّل من الطاعة مؤونة وثقلا. وإنّي لا أعرف السبب الذي يبيح الوحشة ويوقعها بيني وبين الأمير أيّده الله، وما ثمّ معاملة توجب مشاجرة أو تحدث منافرة، لأنّ العمل الذي أنا بسبيله لغيره، والمكاتبة في أموره إلى سواه، ولا أنا من قبله: فإنّه والأمير جعفر المفوّض أيّده الله قد اقتسما الأعمال، وصار لكلّ واحد منهما قسم قد انفرد به دون صاحبه، وأخذت عليه البيعة فيه أنّه من [٩١ ب] نقض عهده أو خفر ذمّته ولم يف لصاحبه بما أكّد على نفسه، فالأمّة بريئة منه ومن تبعته، وفي حلّ وسعة من خلعه.