للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ميسرة المسلمين ثابتة، وأعلامها تخفق، فبهت وتحيّر. وما برح مكانه حتى تلاحق به أصحابه وأتاه من كان منهم خلف المنهزمين من عساكر المسلمين، وقد أسروا جماعة، منهم الأمير عزّ الدين أيدمر نقيب المماليك. فأحضره قطلوشاه وسأله عن أمره فأخبره أنّه من أمراء مصر الذين قدموا مع السلطان- وكان يظنّ أنّ السلطان بمصر وأنّه لم يحضر إلى الشام [٩٢ ب]، وأنّه إنّما يقاتل عساكر الشام- فسقط عند ذلك في يده وشاور أصحابه.

وبينا هم في إدارة الرأي، وإذا بكوسات السلطان والأمراء وبوقاتهم حرّكت يدا واحدة فأرجفت على الآذان بحسّها الأرض وأزعجت القلوب، فلم يثبت بولاي- أحد مقدّمي التتر- وخرج من تجاه قطلوشاه في عشرين ألفا، ونزل عن الجبل بعد غروب الشمس ومرّ هاربا.

وبات السلطان وسائر عساكر المسلمين على ظهور الخيل، وطبولهم تضرب فتلاحق بهم من كان قد انهزم، وجاءوا شيئا بعد شيء على حسّ الطبول، واستداروا حول الجبل الذي فوقه التتار، وصار بيبرس وسلّار وقبجق وجميع الأكابر من الأمراء في طول الليل دائرين على العساكر يوصونهم ويرتّبونهم ويبالغون في التأكيد عليهم في التيقّظ وأخذ الأهبة. فما طلع الفجر حتى اجتمع شمل العساكر وأخذ كلّ أهبته، وقام الجفل من الناس مع الأثقال على بعد من المصافّ، فرأى التتار ما أذهلهم.

وأخذ قطلوشاه يرتّب أصحابه، ونزل بهم عن الجبل مشاة وركبانا، وحطّموا (١) على العسكر.

فانتدب لهم المماليك السلطانيّة يقاتلون قطلوشاه وجوبان (٢)، واشتغل الأمراء بقتال من في قبالتهم

يتناوبون القتال أميرا بعد أمير، وأبلى المماليك بلاء عظيما، وقتل تحتهم خيول كثيرة بحيث كان يقتل تحت الواحد منهم الفرسان والثلاثة.

وتمادى القتال منذ طلعت الشمس إلى الظّهر من يوم الأحد. فصعد قطلوشاه إلى الجبل بعد ما قتل منه ثمانون فارسا، وفشت الجراحات في أصحابه، واشتدّ عطشهم. وبلغ ذلك الأمراء، وأنّهم على عزم من معاودة القتال في سحر يوم الاثنين يدا واحدة، فبات الفريقان ليلة الاثنين كما باتا من قبل.

وركب التتار في الساعة الرابعة من نهار الاثنين ونزلوا من الجبل فلم يتعرّض أحد لقتالهم وتركوهم حتى اقتحموا النهر من شدّة العطش، فركبتهم العساكر حينئذ ركوبا. وأنزل الله بهم نصره، فحصدوا رءوس التتار عن أبدانهم، وتتّبعوا أثر من فرّ، وهم يقتلون ويأسرون إلى العصر. ثمّ عادوا إلى السلطان فكتب بالبشارة على أجنحة الحمام إلى غزّة، وأن يمنع من قدمها من المنهزمين أن [٩٣ أ] يسيروا إلى القاهرة، وأن يفحص عمّن نهب الخزائن السلطانيّة ويحاط به.

وندب الأمير بدر الدين بكتوت الفتّاح للمسير بالبشارة إلى مصر، فسار لوقته. وكتب أيضا إلى دمشق وإلى سائر القلاع بالبشارة.

وبات السلطان ليلة الثلاثاء بمنزلته، فأتاه أهل دمشق للهناء، وسار بهم إلى دمشق، وبين يديه وعن يمينه وشماله ومن خلفه عالم من الرجال والنساء والصبيان لا يحصيهم عدد، وهم يضجّون بالدعاء والهناء، وعبراتهم تنحدر من الفرح، والبشائر تدقّ، فكان يوما يجلّ عن الوصف، حتّى نزل بالقصر الأبلق خارج المدينة، فتأنّق الناس في زينة المدينة.

وتمادى الأمراء في اتّباع التتار إلى القريتين


(١) هكذا، ولم نفهم حطّموا هنا، ومعناها العادي هو:
أجرى الخيل بقوّة نحو العدوّ (دوزي).
(٢) جلبان في المخطوط.

<<  <  ج: ص:  >  >>