فقال: لا تخرجوا بعد هذا إلّا بمنشور ورجل من قبلي- وضمّ معهم الرافقي (١)، وتقدّم إلى عامل الجيزة بإعانتهم بالرجال والنفقات.
وساروا. فلمّا ظهرت لهم العلامات ركب إليهم وهم يحفرون فظهر حوض مملوء دنانير، وعليه غطاء مكتوب عليه بالقلم القديم. فأحضر من عرّبه فإذا فيه: أنا فلان بن فلان، الملك الذي ميّز الذهب من غشّه ودنسه. فمن أراد أن يعلم فضل ملكي على ملكه، فلينظر إلى فضل عيار ديناري على عيار ديناره، فإنّ مخلّص الذهب من الغشّ مخلّص في حياته وبعد وفاته.
فقال: الحمد لله! ما نهتني هذه الكتابة عليه أحبّ إليّ من المال، ثمّ أمر لكلّ رجل كان يعمل [ب] مائتي دينار منه، ووفّى للصنّاع أجرهم ووهب لكلّ منهم خمسة دنانير، وأعطى الرافقيّ ثلاثمائة دينار، ولنسيم الخادم ألف دينار.
فوجد عيار ذلك الذهب أجود عيار، فتشدّد من ذلك اليوم في العيار حتى لحق ديناره بالدينار المعروف به، وصار يقال له «الأحمديّ» فكان لا يطلى إلّا به.
وكان إبراهيم بن قراطغان على صدقاته. فقال له يوما: أيّد الله الأمير، إنّا نقف في المواضع التي تفرّق فيها الصدقة [٩٥ ب] فتخرج إلينا الكفّ الناعمة المخضوبة نقشا، والمعصم الرائع الذي فيه الحديدة، والكفّ الذي فيه الخاتم.
فقال له: يا هذا، كلّ من مدّ يده إليك فأعطه.
فهذه هي الطبقة المستورة التي ذكرها الله في كتابه فقال: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة: ٢٧٣]. فاحذر أن تردّ يدا امتدّت إليك، وأعط كلّ من يطلب منك!
وبات ليلة في قبّة الهواء خاليا مفكّرا. فقال له سوّار الخادم: قد مضى أكثر الليل، ومولاي منتصب. فلو أعطى نفسه حظّها من الراحة، كان ذلك أعود عليه.
قال: يا بنيّ، إنّا كلّفنا من القيام بأمر هذه البلدة ما كلّفناه. فإن نحن أعطينا أنفسنا حظّها من النوم والراحة، وأهملنا الفكر في تدبير أحوالها، والشغل بما يعود به صلاح أمورها وصيانة أهلها، لم يأمنوا في سربهم. لكنّي أرى أن أتعب ويناموا أصلح من أن أستريح ويخافوا.
وكان يقول لمن يقلّده الشرطة السفلانيّة: ارفق بالرعيّة، وانشر العدل عليهم واقض حوائجهم، وأظهر إكرامهم، وتفقّد مصالحهم، فإنّي أسير بالليل في محالّهم، فكلّ موضع أمرّ به لا يخلو من قارئ أو داع أو متهجّد أو ذاكر لله تعالى، فوفّر علينا دعاءهم لنا، واحرسنا من أن يكون دعاؤهم علينا!
وكان يقول لمن يقلّده الشرطة الفوقانية: تشدّد عليهم، وأرهبهم، وأغلظ عليهم ولا تلن لهم! فإنّي أسير في محالّهم فلا أسمع إلّا غناء أو صوت سكران أو معربد قد أخرجته عربدته إلى الوثوب والكفر.
وكان يتشدّد على قوّاده وغلمانه. وما خلت داره قطّ من كاتب خفيّ الشخص يقف عنده يعرف بكاتب السرّ يترصّد من يناظر، فيكتب الابتداء، والجواب بكلّ ما يجري. فإذا انقضى يومه أثبت جميع ما جرى وأنفذه مع من يثق به إلى أحمد بن طولون فيقف عليه ويتدبّره، فإن وجد فيه ما يحتاجإلى زيادة أو تغيير أمر به فيمتثل.
وعمل صنيعا فاخرا أطعم الناس فيه أيّاما، أوّلها يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة بقيت من ربيع
(١) في السيرة ١٩٢: شيخ من أصحابه من أهل الثغر.