للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وأربعين وستّمائة بالقاهرة، ودفن بسفح المقطّم من القرافة. وولي بعده القضاء جمال الدين يحيى (١).

وكان فقيها شافعيّا عارفا بالمذهب، أحد الفضلاء المشهورين إلّا أنّه الغالب عليه العلوم العقليّة فإنّه كان نظره فيها أمكن من نظره في الفقه. وكان إماما في علم الأصول والمنطق، حكيما متميّزا في الفلسفة، كثير التحصيل، قويّ الاشتغال، بلغ الغاية في أكثر العلوم، وأفتى ودرّس. وصنّف كتاب الجمل في المنطق (٢)، وكتاب الموجز في المنطق، وكتاب كشف الأسرار في المنطق، وكتاب أدوار الحميّات.

وحكي عنه أنّه قال عند موته: أموت وما عرفت شيئا إلّا علمي بأنّ الممكن مفتقر إلى ممكن- ثمّ قال: الافتقار وصف سلبيّ، فأنا أموت وما عرفت شيئا.

وقد ذكره الفاضل أحمد بن أبي القاسم بن أبي أصيبعة في كتاب طبقات الأطبّاء فقال: هو الإمام العالم العامل، الصدر الكبير الكامل، سيّد الحكماء والفضلاء، أوحد زمانه، وعلّامة أوانه، قد تميّز في العلوم الحكميّة، وأتقن العلوم الشرعيّة. اجتمعت به بالقاهرة، ووجدته الغاية القصوى في جميع العلوم. وقرأت عليه بعض كلّيّات القانون لأبي عليّ ابن سينا.

وكان في بعض الأوقات يعرض له انشداه خاطر لكثرة انصباب ذهنه إلى العلم وتوفّر فكرته فيه.

فممّا وقع له في ذلك أنّه جلس عند السلطان

وأدخل يده في رزّة (٣) هناك ونسي روحه في الفكرة التي هو فيها، فنشبت إصبعه في الرزّة، وقام القوم وهو جالس قد عاقته عن القيام، فظنّ السلطان أنّ له شغلا قد أخّره فقال: أللقاضي حاجة؟

قال: نعم: تفكّ إصبعي.

فأحضر السلطان [حدّادا] حتّى خلّصها، فقال:

كنت أفكّر في بسط هذا الإيوان بهذه البسط، فوجدته يتوفّر فيه بساط إذا ما بسط على ما في ذهني.

فنزعت البسط، وفرشت كما أشار، ففضل منها بساط. وعدّ هذا من غامض معرفته [١٦٢ ب] بالمساحة ودقيق نظره بتقدير الأراضي.

وقد رثاه تلميذه عزّ الدين محمد بن الحسن الإربليّ بقوله [الطويل]:

قضى أفضل الدنيا فلم يبق فاضل ... وماتت بموت الخونجيّ الفضائل

فيا أيّها الحبر الذي جاء آخرا ... فحلّ لنا ما لم تحلّ الأوائل

ومستنبط العلم الخفيّ بفكرة ... بها اتّضحت للطالبين المسائل

وفاتح أبواب المشكلات بها لنا ... فلم يسم أولاه بها المتطاول (٤)

وبحر إذا قيس البحار بعلمه ... غدا علمه بحرا وتلك الجداول (٥)

فليت المنايا عنه طاشت سهامها ... وكانت أصابت من سواه المقاتل

أيدري بمن قد سار حامل نعشه ... غداة أجنّوه ومن هو حامل؟


(١) الجمال يحيى بن عبد المنعم (ت ٦٨٠)، طبقات السبكيّ ٨/ ٣٥٥ (١٢٥٠).
(٢) كتاب الجمل نشرة المرحوم سعد غراب، تونس د. ت.
(٣) الرّزّة: حديدة يدخل فيها القفل.
(٤) قراءة الشطر الأوّل عسيرة والشكل من المؤلّف.
(٥) في المخطوط، وحبر إذا ...

<<  <  ج: ص:  >  >>