للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

مدينة سام بن نوح، وأنّه سيعمر بعد الدهور على يدي ملك جليل مظفّر منصور له أصحاب كأنّ وجوههم وجوه طير الفلاة، ينزلها وينزلها ولده.

فقال: أنا والله أبنيها وأنزلها وينزلها ولدي.

ولقد أمر الرشيد يوما أن يخرج ولده إلى الصيد، فخرجت مع محمد والمأمون وأكابر ولد الرشيد، فاصطاد كلّ واحد منّا صيدا، واصطدت بومة. ثمّ انصرفنا وعرضنا صيدنا عليه، فجعل من كان معنا من الخدم يقول: هذا صيد فلان، وهذا صيد فلان- حتى عرض عليه صيدي، فلمّا رأى البومة، وقد كان الخدم أشفقوا من عرضها لئلّا يتطيّر بها أو ينالني منه غلظة، فقال: من صاد هذه؟ فقالوا: أبو إسحاق، فاستبشر وضحك وأظهر السرور، ثمّ قال: أما إنّه يلي الخلافة ويكون جنده وأصحابه والغالبون عليه قوما وجوههم مثل وجه هذه البومة فيبني مدينة قديمة وينزلها بهؤلاء القوم، ثمّ ينزلها ولده بعده- وما سرّ الرشيد [بشيء من الصيد كما سرّ بصيدي لتلك البومة]، ثمّ عزم المعتصم على أن ينزل بذلك الموضع.

فأحضر محمد بن عبد الملك الزيّات، وأحمد ابن أبي دؤاد، وعمر بن الفرج، وأحمد بن خالد المعروف بابن الوزير، وقال لهم: اشتروا من أصحاب هذا الدير هذه الأرض، وادفعوا إليهم ثمنها أربعة آلاف دينار. ففعلوا ذلك، ثمّ أحضر المهندسين واختار مواضع القصور. ثمّ خطّ القطائع للقوّاد والكتّاب والناس، وخطّ المسجد الجامع، واختطّ الأسواق، وجعل بناءها على هيئة بناء بغداد، وجعل فيها الكرخ والدور كما في بغداد.

وكان اسم سرّ من رأى في الكتب المتقدّمة «زوراء بني العبّاس». ويصدّق ذلك أنّ قبل مساجدها كلّها مورّبة (١)، فيها ازورار، ليس بها قبلة مستوية.

ويقال: إنّه أنفق على جامعها فوق الخمسمائة ألف درهم، وقيل: إنّما سمّيت «سرّ من رأى» لأنّه لمّا انتقل بجملته وعسكره إليها سرّ كلّ منهم برؤيتها، فقيل فيها: سرّ من رأى- ولزمها هذا الاسم. والمسمّى بالجملة عند النحويّين يحكى على صيغته الأصليّة من غير تحريف فيها ولا تغيير لها. وقد غيّرتها العامّة فقالوا: سامرّا. وقد سمّيت أيضا بالعسكر لنزول العسكر بها.

وقيل: كان السبب في بنائها أنّ العامّة شكوا من الجند والنزول عليهم في المساكن والتعرّض [١٨٢ ب] بهم، فقال له بعض صلحاء المحدّثين: يا أمير المؤمنين، إنّي لا آمن عليك أن تقاتلك العامّة.

فقال: وبم تقاتلني العامّة؟ ومن يجمعها على ذلك، وأنا في هذا العسكر العظيم؟

فقال: يقاتلون بقيام الليل ورفع الأيدي إلى الله تعالى في المساجد.

فركب في الحال وتخيّر موضع سرّ من رأى على شاطئ دجلة فبنيت في أسرع وقت- على كبرها- وارتحل إليها. وقال لذلك المحدّث: قد تركنا قتال العامّة، فكيف هم اليوم؟

فقال: يا أمير المؤمنين، هم بأيد مبسوطة إلى الله تعالى بالدعاء لك، وبنيّات خالصة، وطاعة صافية، رغبة إلى الله تعالى في دوام دولتك.

وقيل: كان سبب بنائه ذلك أنّه قال: إنّي ههنا أتخوّف الخرّميّة- يعني أصحاب بابك الخرّميّ- أن يصيحوا بي صيحة فيقتلون غلماني. وأريد [أن] أكون فوقهم، فإن رابني منهم شيء أتيتهم في البرّ


(١) مورّبة: منحرفة.

<<  <  ج: ص:  >  >>