للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

غزيرها، طويل الصمت، دائم الحزن، كثير الفكرة، شديد التأوّه، ما رأيت أخشع منه، ولا تراه أبدا إلّا مطرقا ضاربا بعينيه الأرض، لا يمازح أحدا، ولا تأخذه في الله لومة لائم، لا يداري ولا يماري. ابتلي بالفقر والضرّ فصبر، له شأن عجيب وهمّة رفيعة. كنت أتعشّق به، وأنا صغير، عند الذي كنت أقرأ عليه القرآن، كان جارا لنا، وكان إذا دخل المسجد هابه كلّ من يراه. وما عاينته قطّ يكلّم أحدا مبتدئا، ولا يجيب إذا كلّم إلّا في الضرورة، يحفظ دينه. [٢٥١ ب] ولمّا رجعت إلى هذه الطريقة فرح بي، ولزمته ملازمة طويلة، وانتفعت بآدابه، وأخذت من خلقه. وكان يحتمل الأذى ويكفّ جفاءه، صدوق الرؤيا، كثير النجوى، ليله قائم، ونهاره صائم، لا تجده فارغا قطّ، يحبّ العلم وأهله. قد اجتمعنا أربعة، أنا وهو وأخوه ورابع لنا على السواء في كلّ ما يفتح الله به علينا، فلم أر أيّاما قطّ في عمري أحسن من تلك الأيّام: رأيت من همّته أنّه كان بين منزلي ومنزلهم بعد كبير، فأذّن بالعتمة، وقد وجدت في خاطري الانزعاج في الوصول إليه، والرجوع إلى منزلي- الأمران معا- فحرت كيف أجمع بين الخاطرين، وكنت أعمل على أوّل الخاطر، فاشتددت إليه عدوا إلى أن دخلت عليه، فوجدته واقفا في وسط الدار يستقبل القبلة، وأخوه أحمد يتنفّل، فسلّمت عليه، فتبسّم وقال لي: ما الذي أبطأ بك؟ قلبي متعلّق بك، عندك شيء؟ - وكان في جيبي خمسة دراهم فدفعتها له، فقال: جاءني فقير يقال له علي السلاوي، وما عندي شيء.

ورجعت اشتدّ عدوا إلى موضعي، وكان يخدم الفقراء بنفسه ويؤثرهم باللّباس والطعام. وكان رحيما رءوفا عطوفا، شفيقا رفيقا رقيقا، يرحم الصغير، ويعرف شرف الكبير، يعطي كلّ أحد حقّه، له الحقّ على الناس، وليس عليه لأحد حقّ، إلّا لله، على هذا فارقته وعلى هذا وجدته، جمع الله بيني وبينه في عافية.

وذكره الصفيّ حسين بن عليّ بن أبي المنصور فقال: كان على وجهه نور، لا يخفى عن أحد أنّه وليّ. فسألنا الشيخ- يعني أخاه أبا العبّاس- عن ذلك فقال: نفح النبيّ صلّى الله عليه وسلم في وجهه فأثّرت النفحة هذا النور.

وكان أعطي إجابة الدعوة، وأعطي شيئا من المحبّة. قال الشيخ أبو العبّاس: كنت أبيت بالليل، وبيني وبين أخي سقف، فكنت أسمع خفقان قلبه من تحت السقف.

ولمّا أدركه الموت قال لأخيه أبي العبّاس: يا أخي، متّ.

قال له: غاب الوجود؟

قال: لا.

قال: فما متّ.

فأخذ يناجي ربّه: يا ربّ، ما تأخذني إليك؟

إلى متى تبقيني في هذه الدار؟ - وإذا هو تنهّد بلذّة طيّبة وقال: الحمد لله ربّ العالمين، يا أخي، قد متّ.

قلت له: غاب الوجود.

قال: غاب الوجود.

قلت: الآن، متّ.

قال أبو العبّاس: من حين حمد الله، كان في الآخرة، وكلّ ما قاله قاله بعد أن مات، لأنّ الوجود لا يغيب إلّا بوجود الآخرة.

فمات، وجاء إليّ وأخبرني بما رآه منها، على وفق ما كنت أخبرته. (قال): ورأيت أخي بعد موته مضطجعا في قبره، وقد نبت من عينيه وفمه

<<  <  ج: ص:  >  >>