فقال أحمد بن أبي دواد لمّا بلغه ذلك: ما بلغ منّي أحد ما بلغ هذا الغلام. لولا أنّي أكره أن أنبّه عليه لعاقبته عقابا لم يعاقب أحد بمثله: جاء إلى منقبة لي فنقضها عروة عروة.
ولمّا وجّه الخليفة المأمون بأخيه أبي إسحاق محمد المعتصم إلى مصر وعقد له من باب الأنبار إلى أقصى الغرب قال لقاضيه يحيى بن أكثم:
ينبغي أن ترتاد لي رجلا حصيفا لبيبا له علم ودين وثقة أنفذه مع أبي إسحاق وأوليه المظالم في أعماله، وأتقدّم إليه سرّا بمكاتبتي سرّا بأخباره وما تجري عليه أموره، وما يظهر ويبطن، وما يرى من أمور قوّاده وخاصّته، وكيف تدبيره في الأموال وغيرها. فإنّي لست أثق بأحد ممّن يتولّى البريد، وتكون كتبه سرّيّة إليك لتقرئني إيّاها إذا وردت عليك.
فقال: يا أمير المؤمنين، عندي رجل من أصحابه أثق بعقله ودينه ورأيه وأمانته وصدقه ونزاهته.
فقال: جيء به في يوم كذا.
فصار يحيى بأحمد بن أبي دواد إلى المأمون، فكلّمه، فوجد فهما راجحا. فقال له: إنّي أريد أن أنفذك مع أخي أبي إسحاق وأريد أن [١٢ ب] تكتب بأخباره سرّا وتفتقد أحواله ومجاري أموره وتدبيراته، وخبر خاصّته وخلواته، وتنفذ كتبك بذلك إلى يحيى بن أكثم مع ثقاتك ومن تأمنه على دمك، فإنّي أشهّر أمرك بتقليد المظالم في عسكره وأتقدّم إليه بمشورتك والأنس بك.
فقال أحمد: أبلّغ لك يا أمير المؤمنين في ذلك فوق ما قدّرته عندي وبي، وأرتقي إلى ما يرضي أمير المؤمنين ويزلف عنده.
فجمع المأمون بين أحمد بن أبي دواد وبين المعتصم وقال له: إنّك تشخص في هذا العسكر، وفيه أوباش الناس، وجنده، وعجم، وأخلاط من الرعيّة، ولا بدّ لعسكرك من صاحب مظالم. وقد اخترت لك هذا الرجل فضمّه إليك وأحسن صحبته وعشرته.
فأخذه المعتصم معه.
فلمّا بلغوا الأنبار وافت كتب أصحاب البريد بموافاة المعتصم الأنبار. فقال المأمون ليحيى:
ترى ما كان من بغداد إلى الأنبار خبر يكتب به صاحبك إليك؟
فقال يحيى: لعلّه لم يحدث خبر تجب المكاتبة به.
وكتب يحيى إلى أحمد يعنّفه ويستبطئه ويخبره أنّ أمير المؤمنين قد أنكر تأخّر كتابه. فلمّا ورد الكتاب على أحمد وقف على ما فيه واحتفظ به ولم يجب عنه.
وشخص المعتصم حتى وافى الرحبة. ولم يكتب أحمد بحرف. وكتب أصحاب البريد بموافاة المعتصم الرحبة. فدعا المأمون يحيى بن أكثم وقال: يا أسخن الله عينك! عجزت أن تختار إلّا من هذه سبيله! تختار ويحك رجلا تصفه بكلّ الصفات وأتقدّم إليه بما كنت حاضره، فلا يكتب من بغداد إلى أن يوافي الرحبة إليك كتابا في معنى ما أعتمد عليه فيه؟
فكتب يحيى إلى أحمد كتابا أغلظ عليه فيه وأسمعه فيه المكروه وقال له: ما هذه الغفلة؟ وما هذا الجهل بما يراد منك؟
فورد الكتاب على أحمد فقرأه واحتفظ به.
وسار المعتصم حتّى وافى الرقّة. فدعا المأمون يحيى وقال: يا سخين العين، هذا مقدار عقلك ورأيك، اللهمّ إلّا أن تكون غررتني متعمّدا؟ وإلّا