وتقديم النصّ المقروء المفهوم ليس بالأمر الهيّن لمن لا يمتلك إلّا نسخة وحيدة مبتورة ناقصة، مبعثرة بين ثلاث مكتبات في العالم، وأربعة أخماسها مسوّدات، لئن كانت من خطّ المؤلّف، فهي في المقابل ذات ثغرات كثيرة وبياض متكرّر واقتضاب واختصار، لأنّ المؤلّف حرّرها بصفة وقتيّة وكتبها بخطّ سريع، كأنّها «رءوس أقلام» للتذكرة أو جذاذات كما نقول اليوم، في انتظار أن يعود إليها في تؤدة ورصانة فيكملها ويبيّضها.
وليس الخمس الآخر، وهو مخطوط السليميّة هذا، بأحسن حالا: صحيح أنّ خطّ ناسخه أوضح من خطّ المقريزيّ، ولكنّ الناسخ يسيء الفهم أحيانا فيحرّف عند النقل أو يبدّل ما لم يفهمه- وقد افترضنا أنّه نقل عن مسوّدة للمقريزيّ- ولئن ترك البياض بياضا غالبا، فإنّه أحيانا يبطل ذلك السقط ويسوق الكتابة استرسالا، غير منتبه إلى أنّ الفراغ مقصود وأنّ المؤلّف كان ينوي تعميره فيما بعد.
فالضبط والتثبّت واختيار القراءة الصالحة، ذاك هو دأب المحقّق وديدنه، وإلى هذه الغاية سعينا.
أمّا الدراسة والتقييم، والنقد والتعليق، فتلك مرحلة أخرى، لها أصحابها من الدارسين والمختصّين، في تاريخ الدول والملوك، وتاريخ العقائد والنحل، وتاريخ المجتمعات والعادات، وتاريخ الفكر والأدب، وفي كلّ هذه المناحي يوفّر كتاب المقفّى لهؤلاء مادّة صالحة. والله نسأل أن يوفّقنا إلى صالح الأعمال وهو حسبنا ونعم الوكيل.