للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وبرع في الفقه والنحو، وشارك في الحديث، وكتب في توقيع القضاة مدّة بعد أن جلس بحوانيت الشهود دهرا.

وحكم عن قضاة الحنفيّة بالقاهرة، وصار من أعيانهم. ثمّ شجر بينه وبين قاضي القضاة شمس الدين محمد الطرابلسيّ، فلم يستنبه، ولزم داره على أخمل حال عدّة أعوام، إلى أن تحدّث له الأمير شيخ الصفويّ أمير مجلس في ولاية القضاء. فاستدعاه الملك الظاهر برقوق في يوم الاثنين سابع عشر شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، وهو معتكف بالمدرسة الطيبرسيّة جوار الجامع الأزهر. فصعد القلعة وتقلّد قضاء القضاة الحنفيّة عوضا عن الطرابلسيّ. فلم ينجب فيه، وصار في غاية الخوف من الطرابلسيّ، وإذا سئل في الحكم بشيء أو ولاية أحد يقول: أعذرني فإنّ الطرابلسيّ ورائي.

فنفر عنه من كان يألفه من خواصّ أصحابه، وذمّه من تجدّد تردّده إليه أيّام قضائه، وخذله من كان له ناصرا، ووقع فيه أعيان البلد من يبس قلمه وكفّ يده عن التصرّف وردّه لشفاعات الأكابر.

وتنبّه له [ ... ] (١) الدولة جمال الدين محمود القيصريّ، وهو يومئذ ناظر الجيش، وأشاع عند خواصّ الدولة أنّه [١٧٧ أ] يتبرّم من السفر إلى الشام مع السلطان، ويريد الإعفاء من ولاية القضاء. وكان السلطان قد عزم على السفر،

ومحمود يروم أن يضاف إليه منصب القضاء ويعجز عن مقاومة الطرابلسيّ.

فلمّا صرف بالمجد ورأى أنّه ارتبك في المنصب وفشل، أعمل الحيلة في عزله ليجد السبيل إلى أخذ وظيفة القضاء. فتمّ له ما أراد، وحاق بالمجد [١٦٦ ب] مكره. ورأى السلطان أنّ في عزله الرفق به. وكان المجد يودّ لو بقي على القضاء. وسافر ماشيا، وأعان محمود على أن حاق مكره بالمجد كون المجد بدن وعظم سمنه إلى الغاية حتى إنّه كان إذا أراد أن ينهض قائما، يعتمد على يديه ويرفع عجيزته عاليا، وكانت كالكثيب ضخامة، ويقيم ساعة ويداه ورجلاه على الأرض، وعجيزته مرتفعة، حتى يستطيع أن ينتصب قائما، فلمّا رأى السلطان ذلك منه غير مرّة رحمه وعزله، مع إجلاله له وتعظيمه إيّاه، فإنّه لم يكن كتب في الفتوى عليه لمنطاش (٢) بإباحة قتاله وقتله، وعلم السلطان أنّه طلب بالكتابة في الفتوى، فاستتر حتى سافر منطاش. وكان عزله يوم الثلاثاء النصف من شعبان سنة ثلاث وتسعين، ولم يكمل عاما. فلزم داره خامل الذكر لا يؤبه له ولا يلتفت إليه، وقد علا سنّه، وضعف بدنه، وهرم من الأسف على مفارقة القضاء، ومن مقاساة ألم الفاقة وكثرة العيال، وفقد نور عينيه. وساءت حاله وأثكله فقد أولاده الذكور. وتوفّي وهو متشخّص في الخمول ليلة الخميس العاشر من جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانمائة.

وكان جميل العشرة فكه المحاضرة، بهيج الزيّ، إماما يقتدى به في معرفة الشروط والوثائق، صدرا من صدور المصر، علّامة في الفرائض


- (ت ٣٣٠): أعلام النبلاء ١٥/ ٢٥٨ (١١٠).
(١) في المخطوط: أفعى الدولة، ولم نجد هذا اللقب الغريب مع اسمه في الخطط ٢/ ٢٨ و ٤١٦ ولا في السلوك ٣/ ٧٢٣، ولا في درر العقود ٢/ ١٦٢ (وانظر هـ ٢) ولا في تاريخ ابن قاضي شهبة ١/ ٦٤٥ وفيه ترجمة وافية (ت ٧٩٩). ولم يقترن لقبه بالدولة إلّا في مخطوطنا، فتركنا الكلمة بياضا لغرابتها.
(٢) منطاش الأشرفيّ، نائب ملطية ثمّ متملّك مصر والشام (ت ٧٩٥): درر العقود ١/ ٢١٨ هـ ٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>