الدين [الكبير] رسم له على لسان النائب أن يتحدّث في مال السلطان كيف يجبى فإنّه ما بقي له أحد يعانده [٢١٧ أ] وأنا أسلّم له المملكة يتصرّف فيها كلّها: الخاصّ والمتجر وغيره، ويدبّر الخاصّ والدولة.
فجعل يتمنّع من ذلك تمنّعا كبيرا، فرسم بحبسه مع خاله، فسجن عنده، ثم أفرج عنه معه.
وقبض عليه في يوم السبت سلخ ربيع الآخر وعلى ولده سعد الدين فرج الله، وسلّما للصاحب أمين الدولة عبد الله بن الغنّام، فأحضره بين يديه وأخرق به وأهانه وهدّده بضربه بالمقارع على تخليص المال، وأخرجه حافيا. فنزل ولده مهانا ليجمع المال، وسجن أكرم ببرج في القلعة عند باب القرافة.
وكان من الاتّفاق العجيب أنّ أكرم هذا كان قد وشى بالأمير طيبغا العجميّ حتى أخذه السلطان من طريق مكّة وأحضره منكّلا به وسجنه بهذا البرج وأخذ ماله. فكتب عند ما أفرج عنه بحائطه:
حضرت من مكّة يوم كذا، وحبست في هذا البرج ستّة عشر يوما، وكنت مظلوما، ففرّج الله عنّي.
وأرجو أن يأخذ الله حقّي ممّن ظلمني- يعني أكرم هذا، فاستجيب له، وكان أكرم يرى خطّه وهو في البرج ويتأمّله.
وكان الوزير ابن الغنّام إذا استدعاه للمطالبة يصيح به العامّة: بالله ذوّقه المقترح كما يفعل بالناس! - وكان قد استجدّ أن يضرب من يعاقبه على صدره بالعصيّ وسمّى هذا الضرب «المقترح»، فتكاد العامّة عند ما يحضر أن تختطفه من شدّة بغضها له.
فبذل جهده في السعي حتى أعفي من طلبه، واستمرّ ولده يحمل مدّة ستّة عشر يوما- قدر ما أقام العجميّ- ثم أفرج عنه. فكان جميع ما حمل له مبلغ مائة وستّين ألف درهم، باع فيها ثياب بدنه، وأثاث بيته وأوانيه، وداره بمنشأة المهرانيّ.
ثم أخرج على [٢١٩ ب] البريد إلى صفد في ليلة الثالث والعشرين من جمادى الآخرة، فأقام بها إلى أن قدم عليه البريد باستقراره في نظر الشام عوضا عن شمس الدين غبريال (١)، فسار إليها على البريد في يوم السادس عشر من شوّال، وقدم دمشق في ثالث عشرينه. فباشر الوزارة وضبط أمر دمشق ضبطا زائدا وسار سيرة حسنة فأعجب به النائب وغيره، إلى أن بلغ الفخر ناظر الجيش أنّ ولده أبا الفرج يكاتبه بمتجدّدات أمور مصر وأخبار أهل الدولة، ويكنّي عن أسماء الأعيان بألقاب يضعها عليهم. فخيّلوا للسلطان منه حتى رسم بإحضاره، فقدم على البريد من دمشق في يوم الاثنين سادس شهر ربيع الأوّل سنة ستّ وعشرين ومثل بحضرة السلطان وهو بناحية سفط من الجيزة، فلم يكترث به وبالغ في الإنكار عليه وأمره بملازمة داره. وبعث غبريال عوضا عنه إلى دمشق.
وأسرّ السلطان إلى الوزير مغلطاي الجماليّ بقتله سرّا، فتقدّم إلى والي القاهرة بذلك: فكمن له جماعة يترصّدونه إلى أن خرج من داره راكبا في ليلة الاثنين رابع شهر ربيع الآخر يريد الحمّام، فوثب به الجماعة، وكان مستعدّا فنجا بفرسه.
وبطشوا بغلامه فقتلوه. وطار الخبر وانتشر في الناس حتى بلغ للسلطان، فرسم بنفيه إلى أسوان.
فأحضر [هـ] الوزير هو وأولاده في يوم السبت تاسعه إلى مجلس السلطان وطالبه بالمال، فأنكر أن يكون عنده مال، فضرب ابنه سعد الدين بالمقارع، وسلّم أكرم إلى الوالي فوجد معه
(١) هو القاضي ابن صنيعة القبطيّ.