الأكدر على عبد الرحمن بن عتبة بن جحدم (١) أن يبعث مراكب في البحر تخالف إلى عيالات أهل الشام [٢١٨ أ] وذراريهم. فعقد له يوم قدم السائب بن هشام [بن كنانة العامريّ]، وذلك للنصف من ربيع الأوّل سنة خمس وستّين على خمسة آلاف من الجند أهل الديوان، كلّهم من لخم وجذام وطوائف من قضاعة، وفيهم من فلّ جيش نائل بن قيس الذين صاروا إلى مصر بعد قتل مروان ببابل، وبعث به إلى الفرما ليمنع مروان من المسير.
فتوجّه الأكدر في جيشه يوم ثماني عشرة من ربيع الأوّل وسار حتى أتى الفرما، فلقي بها عروة- رجل من جذام- وكان على طلائع حبيش بن دلجة القينيّ، وكان حبيش على مقدّمة مروان، فاقتتلوا، وبرز عروة للأ [كدر] فتطاعنا فقتل الأكدر عروة.
وأجمع الجند بمصر على أن يبعثوا بمراكب تخالف أهل الشام إلى منازلهم. فقال عبد الرحمن بن عتبة بن جحدم: ليس لها غير أبي مصعب- يعني الأكدر- فبعث إليه يأمره بالرجوع إلى مصر، فاستخلف على جيشه ابن عمّ له يقال له عوف، ورجع إلى الفسطاط لخمس بقين من ربيع الأوّل.
فلمّا قدم مروان بجيشه على عوف انهزم عنهم ودخل الفسطاط من غير قتال. ويقال إنّ مروان كتب إلى شيعته بمصر أن أخلوا لي الطريق- يعني مقام الأكدر بالفرما- فقال كريب بن أبرهة [الأصبحيّ] لابن جحدم: لو رددنا الأكدر فوجّهناه في البحر يخالف مروان إلى الشام؟
فردّه ووجّهه في البحر. فخرج الأكدر في خمسين مركبا لثلاث خلون من ربيع الآخر. فلمّا
بلغ مروان مسيره جزع جزعا شديدا خوفا من مخالفتهم إلى عيالهم وبلادهم. فبعث الله ريحا على المراكب وقد قربت من سواحل الشام فكسرت بعضها وظفر مروان بمن فيها. وألقى البحر الأكدر في ثلاثة عشر مركبا برشيد، فصار إلى الفسطاط، وشهد وقعة الخندق وأيّامه، وكان رئيسا فيهم ومقدّما على لخم وجذام في قتال مروان.
فلمّا غلب مروان على مصر وصالحه أهلها [بعد أن أمّنهم على جميع ما أحدثوه] حضر الأكدر مع قومه من [٢٢١ ب] لخم فبايع مروان، ومروان معرض عنه. فأنكر قومه ذلك وقالوا: يا أبا مصعب، والله لقد رأينا لمروان وجها لا يصلح المقام معه في بلده، فرأيك في الخروج إلى المغرب أو تكون مستخفيا إلى حين خروجه عن مصر؟
فأبى الأكدر ذلك وقال: ما كنت لأخرج، ولا أستخفي، ومهما يصنع بي مروان بعد عهده ومواثيقه، هل يصنع إلّا القتل؟ فو الله لقد أجلبت على عثمان وسيّرت إليه الجيوش وشركت في قتله بكلّ ما أقدر عليه. وو الله لقد فعلت ذلك بمروان فحال القدر عن بلوغ الأمل. ولقد كان معاوية يبعث بعطائي، وأمر الولاة أن يؤخّروني عن الوفادة إليه خشية أن يتذكّر صنيعي، ثم، الله الحكم بيننا وهو خير الحاكمين.
وجعل مروان يقدّم رجلا ويؤخّر أخرى في أمر الأكدر: يهمّ بقتله ويخشى العواقب. حتى أجمع على ذلك. فحرّض عليه نفرا من أهل الشام فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنّ الأكدر قتل منّا قتيلا ونحن أولياؤه، ولم يكن قتله له على معنى الفتنة.
فبعث مروان فأحضر الأكدر وهو لا يعلم إلى ما دعي، فلمّا دخل على مروان وليس معه أحد من
(١) وهو والي مصر لابن الزبير.