للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بإمرة عند قدوم الملك الناصر محمد بن قلاوون من الكرك وإقامته في السلطنة مرّة ثانية في جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وستّمائة. وأقيم في أستداريّة السلطان نيابة عن الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير بعد نفي الأمير سنجر الجاولي في محرّم سنة ستّ وسبعمائة، فاستمرّ في ذلك إلى أن خرج مع الملك الناصر يريد الحجّ في شهر رمضان سنة ثمان وسبعمائة. فعرّج إلى الكرك وكتب معه بأنّه قد نزل عن السلطنة، فقام بها بيبرس الجاشنكير وتلقّب بالملك المظفّر. فزادت مكانته.

وعند ما توقّف ماء النيل عن الزيادة في سنة تسع وسبعمائة توقّع الناس الغلاء، وامتنع الأمراء من بيع الغلال التي بالشون (١). فتقدّم الخطيريّ إلى مباشريه ببيع سائر غلاله وأن لا يتركوا منها إلّا قدر مؤنته لسنة، وأن لا تباع غلّاته إلّا على الفقراء.

فارتفق الناس بها.

ولم يزل إلى أن فرّ الملك المظفّر. فخرج فيمن خرج معه من الزامه (٢) إلى إطفيح في سادس عشر رمضان ولم يزل معه [حتى وصل المظفّر] إلى إخميم. فعاد [أيدمر] إلى القاهرة، وقد ملك الناصر قلعة الجبل. فخلع عليه، ثم قبضه عقيب ذلك هو وبكتوت الفتّاح أمير جندار، وسجنا بالإسكندريّة إلى أن مات الفتّاح، فنقل الخطيريّ إلى مكانه. وكان للأمير بكتوت الخزنداريّ نائب الإسكندريّة به عناية. فلمّا ورد عليه المرسوم بنقله بعث له في خفية إناء كبيرا جدّا فيه ماء. ومعه رغيف كبير من خبز يزن أرطالا كثيرة ليتقوّت بذلك، فإنّ السلطان كان يقتل الأمراء بمنعهم الزاد والماء، فعند ما دخل الخطيريّ إلى حيث مات

الفتّاح ورأى ما ذكرنا فهم المراد، وتبلّغ به أيّاما ونجا.

وطار الخبر إلى القاهرة بنقله إلى موضع الفتّاح فأيس منه أتباعه وكان قد أسند وصيّته عند القبض عليه لأستاداره بدر الدين بيليك. فلم يزل يسعى له عند خواصّ السلطان ويملأ أعينهم بما يهديه إليهم من التحف حتى ودّ كلّ منهم لو خلص الخطيريّ.

فشقّ عليهم ما صار إليه ولم يشكّوا في هلاكه، وأطلعوا بيليك على هذا ووصّوه بحفظ مال أستاذه لأولاده. فمضى عنهم وترقّب ورود الخبر بموته.

فلم يمض سوى أحد عشر يوما حتى [٢٥٨ ب] رأى في منامه قائلا يأمره بالصدقة عن أستاذه. فلمّا أصبح تصدّق من شونة الخطيريّ بألف إردت قمحا، ومن ماله بعشرة آلاف درهم فضّة في يومه.

ومضى الغد وبعده تتمّة ثلاثة عشر يوما، وإذا بقصّاد خواصّ السلطان أتوه بطلبه. فلمّا أتاهم أخبروه أنّ السلطان البارحة ذكر الأمراءالمحبوسين وقال: أترى الخطيريّ يعيش إلى اليوم أو مات؟

فوجدوا السبيل إلى الكلام وسألوه في الإفراج عنه، فقال: ما تدركونه إلّا وقد مات.

فقالوا: يرسم السلطان ونتكل على الله. فإن كان حيّا حصل له الفرج وإن كان ميّتا فيرحمه الله.

فأنعم بالإفراج عنه. فسرّ بذلك. وعقبها حضر الخطيريّ إلى القاهرة في أثناء ذي الحجّة سنة إحدى عشرة، فأقبل عليه السلطان وأنعم عليه بإقطاعه، وكان بيد الجاوليّ.

فاستمرّ من جملة أمراء مصر، وعدّ هذا من بركة الصدقة. فصار أمير مائة مقدّم ألف يجلس رأس الميسرة ولا يمكّن من المبيت إلّا في قلعة الجبل، فلا ينزل لداره برحبة باب العيد من القاهرة


(١) الشونة: مخزن الحبوب.
(٢) الألزام: خاصة السلطان من حرّاسه وحاشيته (دوزي).

<<  <  ج: ص:  >  >>