فقال له بكّار: لا تفعل، ولا تسنّ سنّة يستنّ بها فيك؛ لأنّ لك أوقافا على وجوه، فإن حللت حلّوا عنك.
فوقف عن ذلك وكفّ عنه وشكر لبكّار مشورته [٢٥٤ ب] عليه.
وباع مدين دابّة فظهرت بها عيوب فطالبوه بالرّدّ فأبى، وبالتحطيط فأبى. قالوا: فاليمين!
قال: ما حلفت على حقّ ولا باطل قطّ!
فصاروا به إلى بكّار فطالبوه فأنكر. فأرادوه على اليمين فقال: ليس في هذا حيلة.
فطمعوا في الردّ، فقال له بكّار: إمّا أن رددت، وإمّا حلفت.
فقال: أخاف أن حلفت [أن] يعاودوني.
فقال: أضعهم في الحبس.
فحلف بالغموس. ثم قال: وهذه رجحان اليمين: بلغت السماء مع الشيطان وأفنيت كواكب الرحمن، ولعبت بالكعاب في الكعبة، وأعنت عاقر الناقة على صالح، ولقيت الله بذنب فرعون يوم قال: أنا ربّكم الأعلى، وحاسبني الله على مثل مال قارون لا أعلم فيه مثقال ذرّة خير إلّا أنفقته في هدم المساجد، وخراب الثغور، وشرب الخمور، والجمع على الفجور، وضرب العود والطنبور، والقمار بالطيور، والكفر ببعث من في القبور، إن لم أكن قدّمته بعشر دوابّ كانت تخلع أرسانها، فكان هذا الدائن يجيء يصلح أرسانها بفمه قليلا قليلا، فكان السائس يزيد في شعيره لهذا السبب.
فضحك بكّار حتى أمسك بطنه بيده وقال: لو عرفتم صاحبكم لما تعبتم. انصرفوا راشدين!
قال محمد بن موسى سقلاب: سمعت بكّار القاضي، وذكر في مجلسه الوعيد، فقال: الدليل على أنّ الله تعالى يخلف وعيده قوله عزّ وجلّ:
* لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب: ٦٠]. والله ما انتهوا، وما أغراه بهم ولقد جاوروه.
ولبكّار عدّة مصنّفات، منها: كتاب الشروط، وكتاب المحاضر والسجلّات، وكتاب العهود والوثائق، وهو كبير، وكتاب نقض فيه على الإمام الشافعيّ في ردّه على الإمام أبي حنيفة (١). وسبب تصنيفه أنّه نظر في مختصر المزنيّ فوجد فيه ردّا على أبي حنيفة، فقال لبعض شهوده: اذهبا واسمعا هذا الكتاب من أبي إبراهيم المزنيّ، فإذا فرغ منه قولا له: سمعت الشافعيّ يقول ذلك؟
- واشهدا عليه به. فمضيا وسمعا من المزنيّ المختصر وسألاه: أنت سمعت الشافعيّ يقول ذلك؟
قال: نعم.
فعادا إلى القاضي بكّار وشهدا عنده على المزنيّ أنّه سمع الشافعيّ يقول ذلك. فقال بكّار:
الآن استقام لنا أن نقول: قال الشافعيّ.
ثمّ ردّ على الشافعيّ بهذا الكتاب.
وكان بكّار قد لقي في قدومه إلى مصر محمد بن أبي الليث قاضي مصر قبله وهو خارج إلى العراق، فقال له: أنا رجل غريب، وأنت قد عرفت البلد، فدلّني على من أشاوره وأسكن إليه.
فقال: عليك برجلين: أحدهما عاقل، وهو يونس بن عبد الأعلى، والآخر زاهد وهو أبو هارون موسى بن عبد الرحمن.
فقال بكّار: صفهما لي.
(١) ذكره البغدادي في هديّة العارفين ١/ ٢٣٣ بعنوان: الرد على الشافعيّ.