للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وهزم عساكر مصر في ثامن عشرين ربيع الأوّل سنة تسع وتسعين، وولّى بكتمر هذا حلب وحماة وحمص وعاد إلى بلاده.

فأقام بكتمر وقبجق والبكي بدمشق، ثم ساروا يريدون مصر وقد عادوا إلى الطاعة، فلقوا السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون على منزلة الصالحيّة في عاشر شعبان، فأكرمهم وعاد بهم إلى قلعة الجبل وأجرى عليهم ما يليق بهم.

ثمّ أنعم عليه بإمرة مائة تقدمة ألف بديار مصر، فلزم الخدمة حتى مات في [ ... ] سنة ثلاث وسبعمائة.

وكان من أكابر الأمراء وفرسانها وشجعانها، مشهورا بالإقدام في الحروب، حسن الشكل، قويّا إلى الغاية، يرمي على ستّة وخمسين رطلا بالدمشقيّ (١)، مع خفّة روح وبشاشة وجه ومحبّة في الطرب ورغبة في السماع والرقص ومعاناة الظّرف، وليس الكامليّات والتبسّط في المطاعم الفاخرة، وكثرة الإكرام والإحسان، بحيث إنّه وشي إليه بكاتبه شرف الدين [ ... ] المعروف بكاتب النطرون أنّه يفسد مماليكه بشرب الخمر وسعة العطاء، وأنّه أخذ مركبا فيها ستّمائة إردبّ قمحا عند وصولها من بلاد الصعيد إلى الشونة، وباعها وأخذ ثمنها لنفسه. فاستدعاه وأحضر من حاققه على ذلك. فلم يزد الكاتب على أن نظر إليه طويلا وتبسّم، وقال: يا متعوس، والله لقد رافعت وحش. ويلك! أحد يسرق ستّمائة إردبّ

ويوسّخ عرضه! ليتك قلت: ألف إردبّ أو ألفين- وولّى قفاه وانصرف وهو يضحك، والأمير أيضا يضحك. فقيل له: إيش قال الكاتب حتى تركته؟

فقال: بلغني أنّه رجل كريم معطاء لا يبقي على شيء. فإن كان ما نقل عنه صحيحا فقد أتلفه وأكل به وشرب، وذهب ولم يبق معه شيء، فلا نحصل منه إلّا على شناعة نقيمها على أنفسنا.

ولمّا انسحب إلى بلاد الشرق لم يخدم هذا الكاتب بعده أحدا حتى عاد. فشكر له ذلك. وأقام سنة يتناول ما رتّب باسمه على الحوائج خاناه السلطانيّة من اللحم والكماج (٢) والسكّر والتوابل ونحو ذلك من غير أن يطلع الأمير عليه، ويستهلكه في ملاذّه إلى [٢٥٧ أ] أن حضر الأمير يوما عند الأمير سلّار نائب السلطنة، وقد حضر الأمير بيبرس الجاشنكير الأستادار والأمراء لأكل طعامه. فأخذ يعتبهم ويقول: إي والله يا أمراء، أنتم تشبعوا اللحم ونحن نشتريه وما نشبع منه!

فأنكر الأمراء هذا إنكارا عظيما وشقّ عليهم سماعه. وقال له الأمير بيبرس: لم تقول هذا يا أمير؟ إن كان راتبك ما يكفي نزيده.

فقال: ومن له عندكم راتب؟ من يوم حضرت ما رأيت راتبا ولا غيره.

فظنّ بيبرس أنّ راتبه لم يصل إليه وخجل. فلمّا انفضّوا من عند النائب استدعى ديوان البيوت وهمّ أن يوقع بهم. فعرّفوه أنّ الراتب مصروف باسمه إلى آخر يومه على يد كاتبه ما بين لحم وتوابل وجرايات وعليق. وكتبوا ذلك في قائمة، وبعثها إليه.

وان بكتمر لمّا وصل إلى بيته طلب كاتبه وذكر له ما وقع، فتبسّم وقال: والله يا خوند لقد أخجلتهم- ووقف قدّامه قليلا وخرج، فإذا بنقيب


(١) رطل دمشق: ٢١٢٤ أو ١٨٥٠ غراما والمقصود أنّ بكتمر قويّ العضلات يرمي عن قوس زنتها بين ١٠٣ و ١١٩ كيلو. وقد مرّ في ترجمة أنصر (٢/ ١٧٠ هـ ٣) أنّ هذا الملك يرمي عن قوس تزن ١٨٠ رطلا مصريّا أي ٩٣ كيلو. وانظر أيضا ١٧٣ هـ ٢. وخفّف ابن حجر: الدرر ١/ ٤٨٣ إلى ٣٦ رطلا. ونتساءل: ما علاقة وزن القوس بإصابة المرمى؟
(٢) الكماج: الخبز الأبيض أو الدقيق الرطب (دوزي).

<<  <  ج: ص:  >  >>