ولمّا توجّه عمرو بن العاص بالجنود إلى مصر، بلغ ذلك المقوقس، فسار من الإسكندريّة إلى مصر وجهّز الجيوش لقتاله. فما زال عمرو يهزمهم حتّى نزل على الحصن وقد تحصّن به المقوقس وخندق حوله، وجعل للخندق أبوابا وبثّ في أفنيته حسك الحديد. فلمّا اشتدّ الحصار تنحّى المقوقس ومعه أكابر القبط وخرجوا من باب الحصن القبليّ، ودونهم جماعة يقاتلون المسلمين، حتى لحقوا بجزيرة الفسطاط وقطع الجسر وذلك في جري النيل وترك المندقور (١) على الحصن، فلم يزل يقاتل المسلمين إلى أن غلب وصار إلى المقوقس بالجزيرة. فأرسل المقوقس إلى عمرو: إنّكم قوم قد ولجتم في بلادنا وألححتم على قتالنا وطال مقامكم في أرضنا. وإنّما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلّكم الروم وجهّزوا إليكم، ومعهم العدّة والسلاح. وقد أحاط بكم هذا النيل وإنّما أنتم أسارى في أيدينا.
فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم، فلعلّه أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبّون ونحبّ وينقطع عنّا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه.
ولعلّكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبتكم ورجائكم. فابعث إلينا رجالا من أصحابكم نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء.
فلم يجبه عمرو. ثمّ بعث إليه عبادة بن الصامت فتحاورا طويلا. ورجع عبادة وقد أبى القبط على المقوقس أن يجيبوه إلى [٣٦٩ ب] أداء الجزية، وقطعوا الجسر. فقاتلهم المسلمون وقتلوا وأسروا من كان بالقصر من جموع الروم
والقبط. فقال لهم المقوقس: ألم أعلمكم هذا، وأخافه عليكم. ما تنتظرون؟ فو الله لتجيبنّهم إلى ما أرادوا طوعا، أو لتجيبنّهم إلى ما هو أعظم منه كرها. فأطيعوني من قبل أن تندموا!
فأذعنوا إلى قوله ورضوا بإعطاء الجزية. فبعث المقوقس إلى عمرو يعلمه أنّه لم يزل حريصا [٢٩٦ ب] على الإجابة إلى ما أراد، لكنّ القوم أبوا عليّ، فلم يكن لي أن أفتات عليهم، وقد عرفوا نصحي.
فأعطني أمانا أجتمع أنا وأنت، [أنا] في نفر من أصحابي وأنت في نفر من أصحابك.
فاجتمعا على عهد بينهما واصطلحا على أن يكون على كلّ ذكر بلغ الحلم من القبط ديناران دون الروم، فإنّهم يخيّرون بين الإقامة بمصر على هذا أو الخروج منها.
وكتب إلى ملك الروم يعلمه الخبر. فكتب إليه يقبّح رأيه ويؤكّد عليه في القتال. فقال المقوقس لمّا ورد عليه الكتاب: والله إنّ العرب على قلّتهم وضعفهم أقوى وأشدّ منّا على كثرتنا وقوّتنا. إنّ الواحد منهم ليعدل مائة منّا، فإنّهم قوم الموت أحبّ إليهم من الحياة، يقاتل أحدهم وهو يتمنّى أن لا يرجع إلى أهله وولده، ويرون أنّ لهم أجرا عظيما فيمن قتلوا منّا، ويقولون إن قتلوا: دخلوا الجنّة. وليس لهم رغبة في الدنيا ولا لذّتها. ونحن نكره الموت ونحبّ الحياة ولذّتها. فكيف نستقيم نحن وهؤلاء، وكيف صبرنا معهم؟ واعلموا معشر الروم أنّي لا أخرج ممّا دخلت فيه. وحذّرهم وأنّبهم وأعلم عمرو بن العاص بذلك كلّه، وأنّه والقبط ثابتون على ما عاهدوا عليه.
فألزمه عمرو أن يقدم بالإنزال والضيافة، وينصب الأسواق والجسور ما بين الفسطاط والإسكندريّة، ففعل ذلك. وصارت القبط أعوانا للمسلمين.
(١) عند الكندي ٨: المندقور الذي يقال له الأعرج. وفي الخطط ١/ ٢٩٠: رجل من الروم يقال له الأعيرج.، وكذلك ياقوت (الفسطاط).