للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وجعل عبد الملك للحجّاج (١) العراق إلّا خراسان وسجستان. فسار من المدينة في اثني عشر راكبا على النجائب حتّى دخل الكوفة في شهر رمضان حين انتشر النهار. بعثه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وكان بشر بن مروان بعث المهلّب بن أبي صفرة لقتال الخوارج، فعصى عامّتهم المهلّب بعد موت بشر، وأتوا إلى الكوفة والبصرة، وقيل ذلك للحجّاج فبدأ الحجّاج بالمسجد.

قال عبد الملك بن عمير: بينما نحن جلوس نتحدّث في ناحية المسجد بالكوفة، إذ أتى آت فقال: هذا الحجّاج بن يوسف، قدم أميرا على العراق.

فاشرأبّت الناس نحوه، ثمّ أفرجوا إفراجة عن صحن المسجد، فإذا نحن به يمشي، عليه عمامة سوداء متلثّما بها متنكّبا قوسا عربيّة يؤمّ المنبر، فما زلت أرمقه بطرفي حتّى قعد على المنبر. وثاب إليه الناس، ولا يحدّر اللثام ولا ينطق حرفا. وأهل الكوفة يومئذ في حال حسنة وهيئة جميلة وعزّ ومنعة. وكان الرجل يدخل المسجد ومعه خمسة عشر وعشرون رجلا: بنيه ومواليه وأتباعه عليهم القوهيّة والخزون (٢). وفي المسجد رجل يقال له:

عمير بن ضابي، لمّا رأى الحجّاج على المنبر قال لصاحب له: أتريد أن أخصيه لك؟

قال: اسكت! حتى تسمع ما يقولون.

فقال الناس بعضهم لبعض: لعن الله بني أميّة حيث يستعملون على العراق مثل هذا! وضيّع الله العراق حيث يكون مثل هذا عليها أميرا. فو الله لو

كان هذا كلّه كلاما ما كان شيئا!

والحجّاج ساكت ينظر يمينا وشمالا، فلمّا رأى الحجّاج أنّ المسجد قد غصّ بأهله، قال: اجتمعتم؟

فلم يقل أحد شيئا، ثمّ قال الثانية: إنّي لا أعرف قدر اجتماعكم.

فقال رجل منهم: اجتمعنا، أصلح الله [٣٢٢ أ] الأمير!

وكان قد أطال السكوت. وتناول محمد بن عمير بن عطارد الحصى ليحصبه، وقال: قاتله الله! ما أعياه وأدمّه! والله إنّي لأحسب خبره كرؤياه!

فلمّا تكلّم الحجّاج جعل الحصى ينتثر من يده، وهو لا يعلم به من الخوف. فلمّا رأى الحجّاج عيون الناس إليه، حسر اللثام عن فيه ونهض فقال [الوافر] (٣):

أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني

أما والله إنّي لأحتمل الشرّ بحمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله. وإنّي لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإنّي والله صاحبها. والله كأنّي انظر إلى الدماء ترقرق بين اللحى والعمائم!

ثم قال:

قد شمّرت عن ساقها فشمّري ... ليس أوان عشّك فادرجي (٤)

ثمّ قال:

هذا أوان الشدّ فاشتدّي زيم ... [نام الحداة وابن هند لم ينم] (٥)


(١) في المخطوط: عبد الله بن الحجّاج، وعبد الله عوض عبد الملك.
(٢) القوهيّة: ثياب من القماش القوهيّ، المصنوع في قوهستان، أمّا الخزون فلم نعرفها.
(٣) جمهرة خطب العرب ٢/ ٢٨٨؛ العقد ٤/ ١١٩ - ١٢٠ و ٥/ ١٧؛ مروج ٣/ ٣٣٢؛ البيان والتبيين ٢/ ٣٠٨.
(٤) تهذيب بدران ٤/ ٥٣؛ مجمع الأمثال ٢/ ٤٠؛ الكامل (سنة ٧٥).
(٥) هذا الشطر انفرد به المقريزي.

<<  <  ج: ص:  >  >>