البصرة وبايعه جميع أهلها قرّاؤها وكهولها. وكان سبب تسرّعهم إلى ذلك أنّ العمّال كتبوا إلى الحجّاج أنّ الخراج قد انكسر، فإنّ أهل الذمّة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار. فكتب إلى البصرة وغيرها أنّ من كان له أهل في قرية فليخرج إليها. فأخرج الناس ليأخذ منهم الجزية، فجعلوا يبكون وينادون:
يا محمّداه! يا محمّداه! لكراهتهم في الخروج.
فبكى قرّاء البصرة لما رأوه، وقدم عبد الرحمن عقيب ذلك فبايعوه على حرب الحجّاج وخلع عبد الملك، وذلك في آخر ذي الحجّة. فلمّا كان المحرّم سنة اثنتين وثمانين اقتتل الفريقان قتالا شديدا عدّة دفعات. فانهزم في آخره أصحاب الحجّاج. ثمّ عادوا إلى القتال فانهزم عبد الرحمن بمن معه وقتل منهم خلق كثير، وصار إلى الكوفة فاجتمع عليه أصحابه وبايعوه، فقاتل الحجّاج خمس ليال أشدّ قتال رآه الناس، وتسمّى هذه الحرب وقعة الزاوية- وقتل الحجّاج فيها بعد الهزيمة أحد عشر ألفا خدعهم بأن نادى: «لا أمان إلّا لفلان وفلان! »، فقال العامّة: «قد أمّن الناس». وحضروا عنده فأمر بهم فقتلوا كلّهم.
وأقام إلى شعبان، ثمّ سار من البصرة إلى الكوفة، فخرج إليه عبد الرحمن ونزل دير الجماجم، وقد اجتمع إليه أهل الكوفة والبصرة والقرى، وأهل الثغور والمسالح.
ونزل الحجّاج دير قرّة أوّل ربيع الأول، واجتمع إليه أمداده من أهل الشام. وقال: إنّ عبد الرحمن نزل دير الجماجم، ونزلت دير قرّة:
«أما يزجر الطير؟ »، وخندق كلّ منهما على نفسه واقتتلوا كلّ يوم عدّة أيّام. فقال عبد الملك: إن كان يرضي أهل العراق أن ننزع عنهم الحجّاج نزعناه، فإنّ عزله أيسر من حربهم، فتحقن الدماء بذلك.
وبعث أخاه محمد بن مروان وهو على الموصل في جند كثيف ومعه ابن أخيه عبد الله بن عبد الملك، أن يعرض على أهل العراق عزل الحجّاج، فإن قبلوا ذلك كان محمد بن مروان أمير العراق، وينزل عبد الرحمن أيّ بلد شاء، فيكون واليه، فإن لم يرضوا بذلك، فالحجّاج أمير الجماعة ووالي القتال.
فلم يأت الحجّاج قطّ أمر كان أشدّ عليه ولا أوجع لقلبه من هذا، مخافة أن يقبل أهل العراق عزله فيعزل عنهم. وكتب إلى عبد الملك: والله لو أعطيت أهل العراق عزلي لم يلبثوا إلّا قليلا حتّى يخالفوك ويسيروا إليك ولا يزيدهم ذلك إلّا جرأة عليك. ألم تر- وبلغك- وثوب أهل العراق مع الأشتر على عثمان بن عفّان [٣٢٩ أ] وسؤالهم نزع سعيد بن العاص، فلمّا نزعه لم تتمّ له السنة حتّى ساروا إلى عثمان فقتلوه، وإنّ الحديد بالحديد؟
فأبى عبد الملك إلّا عرض عزله عليهم، فعرض ذلك عليهم عبد الله ومحمد، فأبوا وخلعوا عبد الملك مرّة ثانية بدير الجماجم. فسلّم عبد الله بن عبد الملك ومحمد بن مروان أمر العسكر للحجّاج، فقال: «قد قلت إنّه لا يراد بهذا الأمر غيركم». فكانا يسلّمان عليه بالإمرة ويسلّم عليهما بالإمرة، فاستعدّ الفريقان، ووقف مع عبد الرحمن سعيد بن جبير وعامر الشعبيّ، وأبو البختريّ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وتزاحفوا للقتال عدّة أيّام يقتتلون أشدّ القتال، فغلت الأسعار وفقد اللحم، والقتال مستمرّ مدّة مائة وثلاثة أيّام.
فلمّا كان اليوم الرابع عشر من جمادى الآخرة اقتتلوا قتالا شديدا فانهزم أصحاب عبد الرحمن، وتبعهم. فدخل الحجّاج الكوفة وأخذ يبايع الناس،