بعث بما يكفي نفقة الوقت، وهو زائركم غدا بنفسه، ومعتذر بلفظه إليكم.
ووضع بين يدي كلّ واحد منّا صرّة فيها مائة دينار، فتعجّبنا من ذلك جدّا، وقلنا للشابّ: ما القصّة في هذا؟
فقال: أنا أحد خدم الأمير أحمد بن طولون المختصّين به والمتّصلين بأقربائه وخواصّ أصحابه، دخلت عليه بكرة يومي هذا مسلّما في جملة أصحاب لي. فقال لي وللقوم: «أنا أحبّ أن أخلو يومي هذا، فانصرفوا أنتم إلى منازلكم». فانصرفت أنا والقوم، فلمّا عدت إلى منزلي لم يسبق قعودي حتى أتاني رسول الأمير مسرعا مستعجلا يطلبني حثيثا.
فأجبته مسرعا فوجدته منفردا في بيت واضعا يمينه على خاصرته لوجع ممضّ اعتراه في داخل جسده. فقال لي: أتعرف الحسن بن سفيان وأصحابه؟
فقلت: لا.
قال: اقصد المحلّة الفلانيّة، والمسجد الفلانيّ، واحمل هذه الصّرر وسلّمها في الحين إليه وإلى أصحابه، فإنّهم منذ ثلاثة أيّام جياع بحالة صعبة، ومهّد عذري لديهم، وعرّفهم أنّي صبيحة الغد زائرهم ومعتذر شفاها إليهم.
(قال الشابّ): سألته عن السبب الذي دعاه إلى هذا، فقال: دخلت هذا البيت منفردا على أن أستريح ساعة. فلمّا هدأت عيني رأيت فارسا في الهواء متمكّنا تمكّن من يمشي على بساط الأرض، وبيده رمح، فقضيت التعجّب من ذلك وكنت انظر إليه متعجّبا حتى نزل إلى باب هذا البيت، ووضع سافلة رمحه على خاصرتي وقال:
قم فأدرك الحسن بن سفيان وأصحابه، قم وأدركهم! قم وأدركهم! قم وأدركهم! فإنّهم منذ ثلاثة أيّام جياع في المسجد الفلانيّ.
فقلت: من أنت؟
فقال: أنا رضوان صاحب الجنة.
ومنذ أصاب سافلة رمحه خاصرتي أصابني وجع شديد، لا حراك لي معه. فعجّل إيصال هذا المال ليزول الوجع عنّي.
فقال الحسن: فتعجّبنا من ذلك، وشكرنا الله سبحانه وتعالى، وأصلحنا أمورنا، ولم تطب أنفسنا بالمقام حتى لا يزورنا الأمير ولا نطلع الناس على أسرارنا، فيكون ذلك سبب ارتفاع اسم وانبساط جاه، ويتّصل ذلك بنوع من الرّياء، فخرجنا تلك الليلة من مصر، وأصبح كلّ واحد منّا واحد عصره وقريع دهره في العلم والفضل.
فلمّا أصبح الأمير ابن طولون أتى المسجد لزيارتنا وطلبنا، فأخبر بخروجنا. [ف] أمر بابتياع تلك المحلّة بأسرها، ووقفها على ذلك [٣٥٢ أ] المسجد، وعلى من ينزل به من الغرباء وأهل الفضل وطلبة العلم، نفقة لهم حتّى لا تختلّ أمورهم ولا يصيبهم من الخلل ما أصابنا (١).
وذلك كلّه بقوّة الدين وصفوة الاعتقاد، والله سبحانه وليّ التوفيق.
*** وقال الحاكم: الحسن بن سفيان محدّث خراسان في عصره، مقدّم في التثبّت والكثرة والرحلة والفهم والفقه والأدب. تفقّه عند أبي ثور، وكان يفتي على مذهبه، وصنّف المسند الكبير، والجامع، والمعجم، وغير ذلك، وهو راوية خراسان لمصنّفات الأئمّة.
توفّي سنة ثلاث وثلاثمائة.
(١) علّق الذهبي في السير ١٤/ ١٦٢ فقال: لم يل طولون مصر، أمّا أحمد بن طولون فيصغر عن الحكاية، فالله أعلم بصحّتها.